حبيبتي مادلين،
لا أدري كيف لي أن أقول لكِ كل ما في بالي برسالة، فأنتِ تعرفين هذا الرأس وكم من الأمور السخيفة تدور فيه ليل نهار، لا بد تعرفين كم أفكر بأمورٍ من المبكر التفكير بها، وكم أشغل نفسي بأشياءَ لا شغل لي بها ولا نفع، ولستُ أجد طريقة مناسبة سوى الكتابة كي أقول تلك الأشياء وأخرجها من رأسي، فليقرأها من يشاء وتشغل بال من تشاء، فهي منذ خرجت من رأسي وانتشرت بعيداً عن غرفتي لم تعد مشكلتي، هي مشكلتهم الآن، وإني أبعد عني ما أبعد عني وليس بي خوفٌ أن يولع بكِ أحدٌ سواي، فأنتِ تعلمين أن التغييرات التي تصيبكِ صيفاً، والتماعة عينيكِ كل حين وحين دون سببٍ، هي أمورٌ ليس سواي أحدٌ يفهمها، حتى أولئك الذي يشاركونكِ الطعام والسرير لا يرونها، لا يفقهون شيئاً في الجمال حين يأتي من خارج عالمهم.
أحياناً أرغب بالصراخ، ربما نسيتُ أن أخبركَ أن الصراخ صار ممنوعاً في مدينتنا، هل تذكرين كم كنا نصرخ، بصوتٍ أحياناً وبصمتٍ أحياناً أخرى؟ هل تذكرين كم كنتُ أصرخ مقبلاً وجنتيك رغم كل العيون والبندقيات المترقبة؟ اليوم ليس مسموحاً لي الصراخ، قد يطلب مني بعض رجال الشرطة تصريحاً إذا رأوني أصرخ – أو أضحك – وذلك يشعرني بالعجز، يشعرني بألم الكتمان، فأنا يا زهرتي الأخيرة لا أتقن الصراخ بصمتٍ سوى عبر شفتيكِ، أنا لا أتقن قتل كل الغيظ في داخلي سوى بتقبيلك أو بمداعبة معصمكِ، هنا لا يسمحون لي بمداعبة معاصمهن، يقلن أن الأمر غريب، لا أدري ما الغريب فيه، عرفتُ أموراً كثيرة أشد غرابة، أستميحك عذراً إن كنتُ قد انجرفتُ للحديث عن أخرياتٍ في حضرتكِ، ولكن أحياناً لا بد من بعض الخطايا لتوضيح الأمور.
لقد انتظرتكِ للمرة الثالثة ولم تأتي، ورغم أنكِ شرحتِ لي مراراً لماذا لستِ بالقرب مني كل يوم، ما زلتُ أجد أعذاركِ واهية، سامحيني إن كان فظاً إطلاقي الأسماء على الأمور، ولكن لا بد لي من أن أقول كل ما في داخلي، ليصبح مشكلتكِ أو مشكلة فتاة أخرى تقرأ وتظن أنها أنتِ، عزيزتي مادلين، أنا أعتقد أن من كان على هوى محبوبه لا يكترث بعبادات الآخرين، وأنتِ تكترثين أكثر من اللازم بتلك الخزعبلات التي يرددها كل من حولكِ، لو كنتُ مكانكِ لتركتُ كل شيء، لرميت كل تفاصيل الأشياء ورائي، كي تتغير حياة الإنسان لا يلزمه أكثر من باصٍ وحقيبة، خذي في حقيبتكِ ما شئتِ، ولكن إياكِ أن تنسي إحضار القميص الأبيض، وقلادتكِ الذهبية، وساعتكِ بالطبع، لا تنسي أن تحضري لي ما تركتُ معكِ منذ ثماني سنوات، أو ربما أكثر، لقد توقفتُ عن حساب الزمن، ولا أدري كيف كنتُ أنتظركِ كل مرة، ولكنني كنتُ أعرف من وزن الهواء في دمشق أنكِ لم تأتي، لم يتغير فيه شيء، وعادة – حسب ما أذكر – كان يصبح أخف وزناً، أكثر بعثاً للحياة كل مرة تأتين فيها.
يوم أمس كنت أفكر أن اسمي واسمكِ سخيفان سوياً، ربما هو شيءٌ جيد أننا بعيدان عن عيون الآخرين، هكذا لن نسمح لأحدٍ بمعرفة سخافة اسمينا سوياً، سيعبر اسمانا في أحاديثهم متباعدَين، غاضَين الطرف عن خطوط حروف بعضهما، سيتصرفان بحكمة، دون مبالغة في التفكير، وتأجيل لهموم الكتمان إلى حين القبلة التالية، إلى حين الصراخ، أتقلب شوقاً للقبلة التالية، حينها ربما سأحكم إغلاق عينيّ أكثر، سأكون أكثر انتباهاً إلى تعطيل جميع الحواس، بعض النهايات العصبية على أطراف شفاهي تكفي، والقليل على إصبعي لتداعب الشعيرات الصغيرة الماكثة في الزواية المظلمة من عنقكِ، بعد ذلك لن أمنع نفسي من البكاء.
طول الزمن ومشقة المكان يشعرانني بالهزيمة، أشعر بالخوف من رؤية السماء، مهزومٌ أنا الآن رغم كل شيء، كل المدن التي كنتُ على وشك أن أغزوها وأسبي نساءها تنام مطمئنة، تترك أبواب قلاعها مفتوحة طول الليل والنهار، لا شيءَ يخافونه، ويتهامسون السؤال حول ما جرى، أخبريهم ما جرى، أخبريهم عني شيئاً سوى الهزائم، أنا مهزومٌ، عاجزٌ عن النظر مجدداً في عمق عينيكِ، لا أملك ما يكفي من الجَلَدِ لأمنع نفسي من الغرق، لا أريد أن أتم حياتي سجين عينين لا سبيل لي إليها.
هذه ليست رسالة شوقٍ أو تعبيرٍ عن مبهمات النفس، هذه مجرد طلبِ إمدادات ضرورية، فإنني بوصفي قلعتكِ الأخيرة في هذا العالم آمرك بأن تنقذيني، فإن قلعتكِ على وشك تسليم مفاتيحها للغزاة الجدد، أنا أقترب من الهاوية، حبيبتي مادلين، أنقذيني، لا تتركيني وراءك جندياً بلا عون.