من قال لكَ أن الألم يتسبب بالإبداع أو الكتابة خصوصاً لم يجرب الغضب، الغضب هو الشكل النهائي للألم، هو التجلي الأخير للعجز عن مواكبة الكون بعد اليوم، هو هروب اللغة منكَ، هروب شعوركَ بالطمأنينة، لستُ كاتباً، ولن أكون يوماً كاتباً، أنا مجرد شخصٍ يغضب كثيراً، ويكتب كثيراً، أنا مجرد يدٍ تحاول أن تلهي نفسها بلوحة مفاتيحٍ وسيجارة على وشك الانتهاء، كي تبتعد كل ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً عن توجيه لكمةٍ إلى الجندي التالي الذي ينظر لي متوعداً حين يلقي نظرة على هويتي، أو إلى بائع السجائر الذي يصر أن المهرّب من نوع الدخان المفضل لدي أكثر ثمناً من النظامي، لا شيءَ يعبر عن حربنا كالسجائر، مهرب ونظامي، أيٌ منهما ليس حراً.
من قال أن الألم يتسبب بالكتابة لم يجرب الغضب، لم يجرب أن تكون عاجزاً عن شراء علبة سجائر أخرى، في حين توقّع على نسخة من كتابك يكفيكَ ثمنها لتدخن أكثر من أسبوعين، لم يجرب أن يكون عليه أن يكتب ويكتب ويكتب وهو لا يملك إلا ربع لترٍ من النبيذ وسيجارتين، والكثير الكثير من الماء، لم يجرب أن يحارب من أجل المزيد ولا يتمكن من جني شيءٍ سوى بعض التملق والتحامل بخصوص كتابه هنا وهناك، الغضب الحقيقي هو أن تعجز عن الغضب، أن تعجز عن تحطيم أي من أغراضك، فأنتَ تعرف أن ما يكسر لن يعود، ولن يكون هناكَ بديلٌ عنه، أنكَ في سفينة لن تمر على ميناءٍ جديد للتزود بالمؤن.
الغضب العاجز عن الغضب وحده يكفي لتكتب الكثير، ذاك الذي لا يسمح لكَ بالصراخ في وجه أحد، ولا ضرب أحد، أنتَ لاعنفي إياكَ أن تنسى، ولا تكسير أي شيءٍ، ولا حتى الفنجان الذي فقد ربعه حتى الآن، الغضب هو ألا تتمكن من صفعها كل مرة تذكركَ أنكما لن تعودا على ما يرام، هو ألا تتمكن من تمزيق حنجرتها كل مرة تنهي اتصالاً معه، الغضب العاجز عن الغضب هو قمة الفضيلة في الكتابة، بدلاً من هراء الوجود والبحث عن مغزىً للحياة سيصل ورقٌ معنفٌ إلى القراء، سأصرخ في وجه نفسي وأضرب نفسي وأكسر عظامي وأهشم شظايا الفنجان لتنغرز في أطراف جمجمتي وأمسح اسمها من الوجود كله… على الورق، وبعد ذلك، لن يكون هناك هم.
فتاة أخرى تعرفت على اسمي، شهرة الكتابة تفتقد للذة شهرة السينما أو الموسيقا، غالباً لا يتعرفون على وجهك، بل عليهم أن يعرفوا اسمكَ واسم عائلتكَ كي يتذكروا أنهم قرؤوا لكَ شيئاً على موقعك، الذي لا يتذكرون اسمه ولا اسم ما كتبت، بوجود اسمٍ بديلٍ لكَ تصبح المهمة أشد صعوبة، مجاملات معتادة لا تشفُّ سوى عن جهلٍ بما كتبته، أو سوء فهمٍ لاسم الكاتب، غالباً لا يتذكرون سوى عبارات العشق الغبية وبعض الأقوال التي يمكن توظيفها سياسياً، مهما حاولتَ إبعاد نفسكَ عن السياسة سيقحمونك فيها، التعامل مع هذا النوع من القراء سهلٌ جداً، اذكر اسم عضوٍ تناسلي واحد على الأقل، اسم عضوٍ آخر يستخدم في ما قبل الجنس، عبارة أو عبارتين تربط بين الجنس والحرب (أو الثورة فلن يلاحظوا بعد مدة من الزمن)، ولا تنسى أن يكون عنوانكَ حمال أوجهٍ، أو على الأقل حمال ضمير مؤنث، دورة شهرية، لعاب، سائل منوي، تقيؤ لو شئت، أحد سوائل الجسد المقززة يجب أن يكون موجوداً.
فتاة أخرى تقول أنها قرأت كتابي وتريد أن تعرفني أكثر، بعد عدة محادثاتٍ ستكتشف أنكَ لم تجنِ نقوداً بعد من الكتابة، وتكتشف أن الكتابة أصلاً لا تعود بالكثير من النقود على الكتاب، حينها تختفي، وتبدأ بحذف كل الكتاب الذين جمعتهم لثلاثة أشهر، بعضهن يُعشقن وبعضهن لا، بعضهن يفهمن أن الكتابة تدفعك إلى مستنقعٍ لن تخرج منه وحيداً، وبعضهن يعتقدن أن المستنقع الذي تعيش فيه هو ما يسمونه النجاح، فتاة أخرى تقول أنها قرأت كتابي، وما الغريب في ذلك؟ كأي كتابٍ مرميٌ على رفوف المكتبات سيجد من يشتريه ومن يقرأه، ولكنها قرأته، وتجد في ذلك حدثاً عظيماً لا بد من إبلاغي به، لا بد لي من الاحتفال به، وكأنه وثيقة سرية كنت أتمنى ألا يقرأها أحد، هل هناك من يتكبد عناء البحث عن سليم بركات أو أمبرتو إيكو ليخبره أنه قرأ كتابه؟ كلا، فقط الكتاب المغمورون يستحقون هذه المجاملة الفارغة.
البعض يكتب آلامه، البعض الآخر يكتب أحلامه، أنا أكتب غضبي، أكتب اللعاب المتناثر من شفاهي حين أصرخ في وجه نفسي، حين أصرخ في المرآة، وحدها من كل الكون لي الحق بالصراخ في وجهها، عليكَ أن تجد اسماً لها سوى مرآة، لا أحد يريد اسماً مؤنثاً تصرخ في وجهه، حمى المساواة تصيب الجميع، وحين يكون لا بد من وقفة تاريخية في وجه التمييز ضد المرأة لا بد أن تكون في وجهكَ، وتلك التي تصرخ في وجهكَ “عنصري” لا تريد الصراخ في وجهك، كما لا أريد أنا الصراخ في وجه المرآة، إنما هي تعجز – كما أعجز أنا عن تمزيق حنجرتها – عن الصراخ بوجه مغتصبها، لا بأس، كما أن هناك من يرغب بلعب دور الضحية، هناك من يرغب أحياناً بلعب دور الجلاد.
كاتبٌ مغمور، المجاملة في أقصى حالاتها، لا أحد يصفكَ بكاتبٍ صغير، أو كاتبٍ لم يحقق النجاح بعد، لا أحد يصفكَ بالكاتب السيئ، رغم أن معظمهم يقصدون أنكَ كاتبٌ سيئ حين يقولون “لديك شيءٌ”، وأنت تعلم أن تتمة العبارة هي “بصراحة لا أعرف إن كان لديكَ شيءٌ أم لا، ولكنك بالتأكيد عبرتَ عنه بلغة سيئة”، حسناً لدي شيء، وسأعبر عنه الآن: أنتم ثلاثة لا رابع لكم، عاهرات ولصوص وقتلة، غالباً الكتاب يندرجون في الفئة الثانية، الفئة الأولى لا تصلح للإناث فقط، ومن الممكن أن تجتمع الفئات الثلاث في إنسانٍ واحد، ولكن واحدة منها فقط تشكل هويته.
قرأتِ كتابي؟ وماذا في ذلك، والأهم.. من قال أنني مهتم بقراءتكِ لروايتي؟ من قال أنها كتبت لتقرأ؟ في هذا العالم قلائل فقط لا يعجزون عن القراءة، ما تبقى يفكون رموز الحروف المتراصة بقرب بعضها البعض، ويرتبكون لرؤيتهم حرف الهاء في منتصف الكلمة بهذا الشكل في كتابي، تقول أنها تجده كتاباً جيداً، وكذلك قالت لي دار نشرٍ قبلكِ منذ أكثر من سنة مضت، هل تعتقدين حقاً أن الرأي ممكنُ الإبداء في حالة مماثلة؟ الكتابة عملٌ جيد لجني بعض النقود، ليس الكثير، فقط ما يكفي لشراء زجاجة نبيذٍ من الصنف الثالث، وعلبة دخانٍ – كونهن يدخنَّ دون أن يخزنَّ – وعلبة واقياتٍ ذكرية مصنوعة وطنياً، وهي ككل ما في الوطن اليوم، تؤخرني أكثر مما يجب.
لا شيءَ يدفعك للكتابة كالغضب، الفضل في الكتاب الجيدين لا يعود لأسلافهم من الكتاب، ولا للبيئة الثقافية الحاضنة، ولا حتى لهم نفسهم، الفضل في ذلك يعود لرجال الشرطة الذين يمنعونك من قتل كل شخصياتكِ الحقيقية، فكل كتاب هو جريمة قتلٍ مؤجلة، جريمة واحدة على الأقل، وكل كتابٍ يخفي أقل من جريمة واحدة لا يستحق القراءة.
احترم القرّاء يا عديم الحياء