نخرج من هاوية مظلمة وننتهي في أخرى، المسافة بينهما يسمونها الحياة*، لستَ بحاجة الكتب لتعرف ذلك، لستَ بحاجة الموت لتعرف ذلك، كلنا سنموت ونعرف ذلك، ونعيش مرتاحين للفكرة، كل شيءٍ سيصل لنهاية، سيتوقف الزمن أخيراً، سيكف دماغنا للحظة عن التفكير، بالكاد نتم الثمانين سنة ونفكر بمستقبل الأرض لثمانين قرن، سيتوقف الزمن، ستتوقف الأصوات كلها، سيكون الصمت، السكينة، القدرة على الحديث مع الأرض وجهاً لوجه، لا شيءَ سيكون مهماً، لا شيءَ سيكون موجوداً، سنكون في اللامكان، حيث ما يوجد هو المكان، حيث نجلس على قدرِ شهوتنا ونرفع وجوهنا نحو المكان حولنا، فلا نرى شيئاً، الفراغ، اللاشيء الذي لم تختبره عينٌ بشرية قبلاً، نحن المكان، أقول لكَ نحن المكان، وكل ما حولنا ليس سوى هراء تنتجه عقولنا، حتى نحن لسنا موجودين، نحن مجرد بنات أفكار البشر الأوائل، أولئك الذين نسميهم الآلهة، فقط الإله موجود، ونحن مجرد أفكار.
نخرج من هاوية مظلمة، لا نعرف أين كنا، لا نذكر المكان الذي أتينا منه، نفتح عيوننا لنجد نفسنا في كونٍ شديد التعقيد، نقضي أعمارنا محاولين فهم الكون حولنا، والكون داخلنا، نموت ونحن ما زلنا نحاول، أو ربما هي المحاولة التي تقتلنا، لا أدري، كل شيءٍ ممكن، لا أذكر هاويتي المظلمة، تركت عليّ بعض الأثر كي أعود إلى الهاوية الصحيحة، الهاوية، كم هو مكانٌ ممتع! المجهول التام، الهاوية كالموت، عملياً هي الموت، نعرف الكثير من البشر على حافة الهاوية، والكثير من البشر أيضاً على حافة الموت، ولكن لم يعد أحدٌ ليخبرنا ما الذي يحصل هناك… في الهاوية وفي الموت.
المسافة بينهما يسمونها الحياة، مئات ملايين المعلومات الصغيرة، الكثير من الأطفال يزعجون هدوء عقلنا، ماذا لو عرفنا شيئاً أو اثنين عن الكون؟ ماذا لو عشنا حياتنا مع حقيقة أن الكون له قانون أو اثنان؟ كل شيءٍ سيكون أبسط، سنعرف دائماً كيف نتصرف، كم هو رائع ألا نرتبك؟ أرتبكُ أمامكِ كل مرة تخرجين بعض النبيذ الجيد من الداخل، كم سيكون الأمرُ رائع لو أني لا أرتبك؟ كم سيكون الكون أكثر سهولة للعيش فيه لو كنتُ لا أرتبك؟ أريد كوناً آخرَ لا سوائلَ فيه، لا تعرق عند ملامسة أردافكِ، لا حاجة للتبول عند ملامسة يدكِ خطأً، هذه المسافة بينهما أشد صعوبة من أي شيءٍ في الهاوية، لا أعرف ما الذي يوجد في الهاويتين، ولكن من السهل التخمين أن المسافة بينهما أشد صعوبة من أي شيءٍ وجد وسيوجد، المسافة بينهما يسمونها الحياة، رحلة طويلة نحو اللاشيء، نحو الصمت، بعد كل الموسيقا، سنستمتع أخيراً بالصمت.
وننتهي في أخرى، نبحث عن أخرى، نعيش حياتنا أملاً في أخرى، ليس مهماً أنها هاوية، المهم أن نستمر بالوجود، أن نستمر بالسؤال، لا يقلقني شيءٌ كقدوم يومٍ لا أملك فيه أسئلة، الإجابات لا نتقذ أحداً، خصوصاً الجاهزة منها، فقط الأسئلة تطلق العنان لمسببات السعادة كي تتكاثر وتبني مئة قبيلة، ننتهي في هاوية أخرى، مكان شغل تفكير الجميع، أكثر مكانٍ لدينا آراءٌ بخصوصه وليس لدينا أدنى معلومة عنه في الوقت نفسه، هي الأسئلة من جديد، لا شيءَ يثير شهيتنا للمعرفة كالجهل.
نخرج من هاوية مباشرة نحو أخرى، نبحث عن ضوءٍ في آخر نفقٍ لم ينتهِ يوماً، الجميع يسير فيه، بانتظار أن ينتهي، تنتهي حيوات جميع من كانوا فيه، ولا ينتهي، هي الرحلة ما تعنينا، لا تعنينا نهايات الرحلات، فقط الرحلات هي ما يعنينا، ندمر النفق بهمجية على أمل تسرب بعض النور من جدرانه، نمزق ستائره، نضرم فيه النيران لأنها تذكرنا بالضوء الذي لم نره يوماً ونسعى نحوه أبداً، تذكرنا بالهاوية التي أتينا منها.
* مقتبس بتصرف من كتاب (تصوف: منقذو الآلهة) للكاتب اليوناني نيكوس كزنتزاكيس (1883 – 1957)