أكتبُ لكِ من حيث علمتِ آخر مرة أنني موجود، كل شيءٍ هنا على ما يرام، لا تقلقي، قد أعود قريباً، أؤكد على “قد”، لا أريد أن أؤكد عودتي، لا أريد منح وعوداً وآمالاً لا يدَ لي في صناعتها، أكتبُ لكِ من حيث يختلف شكل العالم من حولك، تنسين كل شيءٍ تعرفينه عن المدينة والسيارة والهاتف المحمول، بعض الأمور تصبح حمالة أوجهٍ جديدة، وأخرى تصبح غير معلومةٍ على الإطلاق كالهاتف المحمول، أتذكر هذا الجهاز، أتذكر اسمه، ووظائفه ومساوئه وما تقوله الدراسات الجامعية عن مساوئ استخدامه، وحتى أنني أذكر أنني لم أكترث بأقوال الجامعيين، أي شيءٍ نستمتع به سيمنعونا عنه، ولكن الآن لا أعتقد أنه موجود، فقدتُ إيماني – الذي كان يقيناً يوماً ما – بكونه موجود، عملياً ليس مهماً إن كان موجوداً أم لا، فنحن لا نستطيع استخدامه، لا نستطيع أن نحقق أي فوائدٍ منه، ما الغاية من الإيمان بشيءٍ بلا فائدة؟
حبيبتي، أو زوجتي، أكتبُ لكِ من حيث لا يوجد أي نساءٍ على الإطلاق، ربما تبرد نار غيرتكِ قليلاً، ربما تكفين عن تفقد الروائح على ياقتي، رائحتي الآن واحدة فقط، خليطٌ من رائحة الدماء والماء المتسخ والتعرق الذي باتَ يحصل بصمتٍ في مكانٍ ما هناك تحت جلدي، رائحة واحدة ولكن دون ياقة هذه المرة، لا أدري إن كنتِ حبيبتي أو زوجتي، لم أعد قادراً على فهم الفرق، أعرف أنني أحبكِ، فأناديكِ زوجتي، وفي آخر مرةٍ سألوني عن وضعي الاجتماعي – عندما ملأنا أوراقاً للمرة الأخيرة – أجبتهم بأنني متزوجٌ، ويصادف أن اسم الزوجة الذي أعطيتهم يشبه كثيراً – حد التطابق – اسمكِ، أغلب الظن أنكِ زوجتي، ليسَ مهماً، المهم أنكِ حبيبتي التي ملكتُ يوماً ما.
لقد مر الكثير من الوقتِ – أعلم ذلك – ولم أعد قادراً على تمييز فصول الشتاء عن بعضها، بات هناك الكثير منها مخزنٌ في ذاكرتي على شكل أصواتِ مطرٍ وبرودة مترافقة بصمتٍ قاتل – ذلك يحصل عند هطول الثلوج – وروائح تختلف بالكامل، تصبح أكثر ثقلاً، أكثر وقاحةٍ في اقتحام أنوف الناس من حولها، كل شيءٍ بات الآن عديم الوجه، عديم الهوية، نفس الجدار كل يوم، نفس الشمس – بعض الشمس – ونفس الأصوات، نفس روائح السجائر من حيث يقف الحارس الأقرب، بعضهم لا يدخن، ولكنهم على الأقل يشغلون الموسيقا بصوتٍ منخفض ويغنون معها، لا نعرف أسماءهم، نعرف فقط من تغير رائحة الدخان أنهم تغيروا، ومن صوتِ خطواتهم حين يتبادلون الأماكن.
لا أعرف ماذا يفترض بي أن أخبركِ، هل أخبركِ أن الجنس البشري شديد القبح؟ هل أخبركِ أن عليكِ أن تنسي كل ما عرفتيه قبلاً وتبدئين بقتلهم؟ أي عددٍ من البشر الموتى هو أفضل من ضعف عددهم أحياء، أود لو أخبركِ بعض الحقائق الجديدة التي اكتشفتها، ولكن لا حقائقَ جديدة أعرفها، بات خيالي يمسك بزمام الأمور الآن، ويطلب مني تصديق أشياء غريبة، كأن أصدق بوجود العقارب، وأنها قادرةٌ بالفعل على قتل إنسانٍ يفوقها بالحجم مئة مرة، لم تزعجني كثيراً المعلومة، الإنسان يستحق ذلك بكل الأحوال، مرة طلب مني خيالي – المسيطر على الأمور – أن أصدق أنكِ قد تكونين حصلتِ على طلاقٍ دون علمي، وأنكِ الآن ربما زوجة رجلٍ سواي، وأم أحد أبنائه ربما، أخبرني أنكِ ربما مللتِ انتظاري، وتصبرين نفسكِ بممارسة الجنس مع الرجال، في أحد الأيام تذكرتكِ بشكلٍ كبير، خيالي قال لي أنكِ ربما شاركتِ الحارس الجديد السرير، وتلك فقط رائحتكِ العالقة بعنقه تجلب كل تلك الذكريات دفعة واحدة عن شخصٍ واحد، لم أصدقه، ولكن عدم تصديقه لا يعني بالضرورة أنه ليس على صواب.
حبيبتي، أكتب لكِ من حيث الصمت هو سيد الأشياء، أكتب لكِ من حيث طُلب مني أن أنكر حقي بممارسة الجنس معكِ، تلك المرة الوحيدة التي لم أخضع، كل شيءٍ… كل شيءٍ إلا سريري! أسبوعٌ من الألم لم يكن شديد الإزعاج، لا أعرف كيف ستصلك هذه الرسالة التي أكتبها، التي أنحتها على جدرانِ ذاكرتي شبه الخالية، يراودني أملٌ أن تنزل ذاتها كوحيٍ على صحفي مبتدئ، أو مدونٍ عديم المخيلة، أن يكتبها بالضبط كما أحيكُ حروفها، ربما تقرئينها عند استراحتكِ من زيارةٍ جديدة إلى المحامي، أو استراحتكِ من مضاجعةٍ أنهكتْ ردفيكِ، هذا أنا، أبحث عنكِ كل يومٍ في ذاكرتي، أتمسكُ بصورتكِ أنيساً لوحدتي، أزيل كل شيءٍ آخر…