أصوات الناس في الشارع تحدث ضجيجاً لا يُطاق، أصوات السيارات من الممكن احتمالها، أصواتٌ صماء لا تحمل أي معنىً، لاشيء يدخل ذاكرتي بعد سماعها، ولكن أصوات الناس لا يمكن احتمالها، القصص والمشاعر التي يصفونها دفعةً واحدة على مسامع الجميع دون اكتراث، آلاف الكلمات التي ترمى على القرب من مسمعي كل دقيقة باتت مزعجة، أشعر بالسعادة حين يكون هناك اثنان أو أكثر من الأكراد يتكلمان قربي، فأنا لا أعرف أي كلمة كردية، وبالتالي أستطيع أن أعامل أصواتهم كأصوات السيارات، على عكس الأرمن، فوجودي لمدة لا بأس بها مع أربع فتياتٍ أرمينيات في عملي أجبرني على تعلم الكثير من الكلمات الأرمينية، وحتى استخدام بعضها معهن، وحين يتكلم الأرمن بالقرب مني أقع في منطقة مشوشة بين صوت السيارات وصوت البشر، فأنا لا أفهم ما يقولونه، ولا يزرعون شيئاً من تفاصيل حياتهم التي لا أكترث بها في ذاكرتي، ولكن في الوقت نفسه لا أستطيع تجاهل الأصوات، وأركز أكثر على كل حرفٍ بانتظار سماع الكلمات التي أعرفها، أو سماع بعض الكلمات العربية التي يستخدمونها عند حديثهم بالأرمينية.
رن هاتفي، كان اتصالاً من رقمٍ غريب، يتصل بي من خارج سوريا، لا أعرف ما هي البلد التي يتصل منها، أجبتُ، “هالو Hello”، صوت امرأة يبدأ الاتصال بالإنكليزية، تقول كلمة “ألو” دون حذف الهاء من بدايتها الذي يعني أنكَ تنوي الكلام بالعربية وليس الإنكليزية، رغم أنني مستخدمٌ شرهٌ للهاتف ولكن لا فكرة لدي عن كيفية سير الاتصالات باللغات غير العربية، كانت تربكني والدة صديقتي الأرمينية، كانت عربيتها ضعيفة، كانت تجيب على “مرحباً” بـ”مرحباً” أخرى، وربما لها الحق في ذلك، فاللغة العربية هي الوحيدة ربما التي تختلف فيها كلمات إلقاء التحية عن كلمات الرد على التحية.
“هاي Hi” كانت إجابتي على تحيتها، بكل بساطة كانت تعني “أنا مرتبكٌ، لكن لا بأس، سأتكلم بالإنكليزية”، “هل أنتَ تشارلي؟ ?Are you Charlie”، لماذا قد يتصل أحد برقم سوري متأملاً أن يجيبه تشارلي؟ لم أفهم، كنتُ قد سمعتُ هذه الجملة من قبل، في أغنية أو خاتمة ألبوم موسيقي ربما، للأسف أنا لستُ تشارلي، “لا لستُ تشارلي No, I’m not Charlie”، كنتُ قد بدأتُ أجذب انتباه بعض من يتكلمون الإنكليزية في الباص، والبعض الآخر الذين لا يتكلمون الإنكليزية بات بإمكانهم أن يعاملوا اتصالي كصوت الباص، كنتُ بانتظار أن تنهي الفتاة الاتصال معتذرة عن الخطأ الذي ارتكبته عند طلب رقمي، لكن لم يبدُ أن ذلك هو ما تنوي القيام به.
“هذا سيئ، أنا حقاً بحاجة للتكلم إلى تشارلي… That’s bad I’m really in need to talk to Charlie”، لم أعرف ما الذي علي أن أقوله، ولم أفهم لماذا تشاركني بمعلوماتٍ عن حاجتها إلى التلكم إلى تشارلي ما دمتُ لستُ تشارلي، بقيتُ صامتاً، لم يبدر عنها أي صوت، كان صوت تنفسها ما زال يصلني، الاتصال لم ينقطع، “آسف Sorry”، لا أدري عما كنتُ أعتذر، ربما عن كوني لست تشارلي، لا أدري وليس مهماً، كان عليّ أن أقول أي شيءٍ، بدت تلك الكلمة المناسبة حينها.
“هل تعلم كيف بإمكاني الوصول إلى تشارلي؟ ?Do you know how I can reach Charlie”، بدأتُ أشعر أنها ثملة ربما، أو أنها تريد أن ترفه عن نفسها بالاتصال برقمٍ في بلدٍ آخر، رقم تيقن تماماً أنها لن تضطر للقاء صاحبه، قررتُ أن أسايرها ريثما أصل إلى الجامعة، هي بكل الأحوال مسلية، أكثر من الأغاني التي معي والتي نسيتُ أن أضيف عليها شيئاً اليوم.
“لا، لا أعتقد ذلك، ربما عليكِ أن تتأكدي من الرقم No, I don’t think so. Maybe you should recheck the number”، كنتُ أحاول أن أساعدها لا أكثر، منطقياً عليها أن تغلق الهاتف، تتأكد من الرقم من جديد وتتصل بتشارلي.
“في الحقيقة أنا لا أملك رقم تشارلي Actually I don’t have Charlie’s number”
“لماذا تتصلين بي إذاً؟ أنا لستُ تشارلي Then why are you calling me? I’m not Charlie”
كان غريباً أن يكون علي التأكيد مرتين على كوني لستُ تشارلي، لا يوجد احتمالٌ أن يطلق أهلي عليّ اسماً كهذا حتى لو ولدتُ بعد مئة عامٍ من الآن.
“لا أدري، ظننتُ أنكِ قد تتمكن من مساعدتي في الوصول إلى تشارلي I don’t know, I thought you might be able to help me reach Charlie”
“آسف، لا أعتقد أنني قادرٌ على ذلك Sorry, I don’t think I can do that”
أطلقتْ تنهيدة حزينة، صمتتْ قليلاً.
“هل أنتَ متأكد أنكَ لستَ تشارلي؟ ?Are you sure you’re not Charlie”
لم أصدق أن عليّ أن أدافع عن كوني لستُ تشارلي لهذه الدرجة، لا أدري كيف يمكنني إثبات ذلك، ولم أكن أرغب بأن أصرح باسمي لرقمٍ أجنبي غريب.
“أنا متأكد، أنا لستُ تشارلي I’m sure, I’m not Charlie”
“هل يمكنك أن تخبره أنني اتصلتُ به إن رأيته؟ ?Can you tell him I called if you see him”
“نعم بالتأكيد! Yes, sure”
“شكراً لكَ، لقد كنتَ لطيفاً جداً Thank you, you were very nice”
وأنهتْ الاتصال، عادتْ الموسيقا، وكان قد بقي أقل من دقيقتين بكل الأحوال حتى أصل إلى جامعتي، نزلتُ من الباص دون أن أوقف الموسيقا كما اعتدتُ أن أفعل، وصلتُ خارج قاعة المحاضرة، كان صديقي هناك، ومعه شابٌ جديد لم أره قبلاً، عرفنا على بعض.
“تشارلز، صديقي من إنكلترا، يتعلم العربية هنا”
مستشرقٌ آخر فقد جاذبيته كمعظم الأجانب حين يبدؤون بالتكلم بالعربية معنا، تركتُ تشارلز هذا وصديقي ودخلتُ لأحجز مقعداً بحقيبتي، قبل أن أصل إلى الصف الرابع من المقاعد حيث أحب الجلوس استنتجتُ شيئاً، اسم تشارلز يتم تخفيفه إلى تشارلي، مثل ما يتم تخفيف دانييل إلى داني، ونيكولاس إلى نيك، وجوارجيوس إلى جورج.
عدتُ إلى الخارج، توجهتُ إلى تشارلز، سألته بالإنكليزية وبنفس الانفعال الذي تكلمتْ به الفتاة؛ “هل أنتَ تشارلي؟ ?Are you Charlie”، هز رأسه، قال “نعم” بالعربية الفصحى، كنت أريد أن أن أقول له أنها اتصلت به، تذكرتُ أنني لم آخذ اسمها، قلتُ له بالإنكليزية رافضاً الانصياع لتطفله على لغتي “لقد اتصلتْ بكَ، ربما عليكَ معاودة الاتصال بها She called you, maybe you should call her back”
“حقاً؟ اتصلت؟ ?Really? She called”، ثم أخرج هاتفه وتنحى جانباً ليجري اتصالاً، تركتهما ودخلتُ إلى القاعة، هناك خطر لي أمرٌ غريب، تشارلز ديكينز كانت أمه وعائلته بشكلٍ عام تناديه تشارلي على الأغلب وليس تشارلز، ببعض التساهل في الترجمة من الممكن ترجمة عنوان روايته (Great Expectations) بنفس الكلمات التي يُترجم بها عنوان أغنية بينك فلويد (High Hopes)، والتي يرد في نهايتها اتصالٌ يطلب تشارلي.
فكرتُ بصوتٍ عالٍ “فَك ذات شِت Fuck that shit”، وانتظرتُ قدوم مدرّستي كي نبدأ بقراءة “شعور ريشون שיעור ראשון”.