تسع سنوات تجمع بيننا، تسعُ سنوات في ذات الكنيسة، تسع سنوات نتصل عند الحاجة، تسع سنواتٍ وأنا أبكي على كتفيه حين يهجرونني أو حين أهجرهم، أربعة عشاق مروا في حياتي منذ عرفته، يوماً لم يخذلني حين احتجته، يوماً لم أخذله حين احتاجني، أبحث عنه قبل الجميع ويبحث عني قبل الجميع حين تحتل الدموع عيوننا وتأبى الرحيل إلا لتأخذ مكانها دموعٌ أخرى.
مرت في حياتنا سوياً أربعة عاشقاتٍ على دفتر مذكراته، وخامسة اختلقناها وأذعنا سيطها كي نبعد الشبهات عنه وعن فتاة رفضته ويأبى من حوله تصديق ألا شيئاً بينهما، ذلك كان منذ سبع سنوات، أعطاني حينها رسالة كتبها هو لنفسه من تلك العاشقة الوهمية التي أسماها (أناستيجا)، وطلب مني أن أكتبها بخط يدي كي تظهر مكتوبة بيد فتاةٍ، وكان يستخدمها دليلاً على علاقته المختلقة والتي حرمته نهائياً من الفتاة التي كان يحاول أن يبعد الشبهات عن علاقته بها وإلى الأبد.
بعد سبع سنوات من ذلك كانت فتاة أحبها بكل ما عنده، أحبها بكل ما يملك من أحاسيس وكلمات، فتاة أحبها واضعاً الواقع والألام خلفه لأجلها، تلك الفتاة كانت قد هجرته طالبة منه أن يعودوا أصدقاءً، الأمر الذي ليس بالفعل بارعاً به.
اتصالاته كثرت معي لمدة شهرين بعد انتهاء تلك العلاقة، وذات يوم قال لي فجأة أنه قد عشق غيرها، لم يكن من النوع الذي ينتقل من حب فتاةٍ لأخرى دون فواصل من الفراغ بينهما، ولكن يبدو أنه هذه المرة لم يخرج من منزل حبه لأروى قبل أن وضع قدمه الأخرى في منزل حبه لفتاةٍ أخرى.
أصريت عليه كثيراً كي يقول لي من هي ولكن عبثاً، بقى أربعة اشهر يكتم اسمها عني، يصف لي المشاعر الغريبة التي تراوده حين يفكر بها، كنت حين عشق تلك الفتاة خرجت لتوي انا الأخرى من عاشق الرابع، ولكن رجت إلى الطريق وليس كما فعل، كانت كتفانا تحتملان بكاء الآخر كل يوم، رغم الحب الكبير الذي تملكه إلا أن الحزن قد تسرب إلى عينيه، الحزن الذي عاينته لدرجة صرت أعلم بقدومه قبل أن يصل إلى عينيه، وقبل أن يصل إليه حتى.
ذات يومٍ ثار غضبي عليه بسبب شجار متعلق بانتقاده لي بسبب معاودتي الاتصال بآخر عاشق انفصلتُ عنه، وفي ثورة غضبي قلتُ له: “أنتَ تدعي الاهتمام بي وتضجرني بكلامك عن كوننا أخوة وكوني الوحيدة التي تهتم لأمرها وتثق بها، ورغم ذلك منذ أربعة أشهر وأنتَ ترفض أن تخبرني من هي تلك المعشوقة السرية”
أحزنه كلامي، ردّ علي قائلاً:” حين تعلمين من هي ستعذرينني لأني لم أخبرك، حب تلك الفتاة خطيئة لا غفران لها، لا غفران أبداً…”
“لستَ أنت من يقرر إن كنتُ سأعذركَ أم لا، أخبرني وأنا أقرر”
انتهى النقاش حينها بتهربه من الإجابة، وفي اليوم التالي كان لنا اجتماع لنتدرب على أناشيد سنقدمها في حفل عيد شفيع كنيستنا، لم يقبلني على وجنتي كما يفعل كل مرة حين يراني، ولكن ذلك كان النتيجة الطبيعية للتوتر الذي ساد بيننا دون أن يتكلم أي منا عنه، حتى أننا لم نجلس قرب بعضنا، ما أثار جواً من الهدوء بين الجميع بحكم غياب أحاديثنا المعتادة أثناء الاجتماعات.
بعد أن انتهى الاجتماع وخرج الجميع بقي وحده في الكنيسة، وقبل أن أخطو خارج الكنيسة ناداني..”انتظري، هناك ما علينا أن نتكلم به الآن”
توقفتُ، توقعتُ أنه سيعتذر مني ويطلب مني أن أمهله حتى يكون جاهزاً كي يخبرني بما لديه، ولكنه لم يفعل كما توقعتُ.
“سأخبركِ بأمر يحل المشكلة التي حصلت يوم أمس، ولكن عليكِ أن تعديني قبل أن أفعل أن تقومي بأمر لي”
“أي شيءٍ تريده، المهم ألا نجلس منفصلين من جديد”
“أريدك أن تقسمي بذلك المعلق على صليبه في صدر الكنيسة أنك بعد أن أخبركِ ستنامين وتستيقظين وتكونين قد نسيتِ نهائياً ما أخبرتكِ به”
لم أفهم ما سبب هذا الطلب الغريب، ولكن حينها بدأت أشعر بأنه سيخبرني باسم الفتاة التي يحب، وأن كونه يحبها هو بالفعل أمرٌ خطير، ولكن لم يكن ذلك كافياً لأتخلى عن فضولي.
“أقسم بيسوع المصلوب من أجلي أنني سأنام وأستيقظ ناسية ما ستقوله لي وناسية وجوده”
حمل حقيبة كتفه، واقترب مني، اقترب فمه من أذني ليهمس بها، اشتممت رائحة التبغ حين اقترب، رائحة نفسه المعبق بالتبغ كانت تذكرني بحبيبي الذي رحل مؤخراً من حياتي، وهمس في أذني أعظم أمر سمعته في حياتي:
“بحبك… بحبك بحبك”
عانقني غير مبال بقندلفت الكنيسة مطولاً، ثم خرج غير ناظراً إلى الخلف، وقبل أن يخطو خارج الكنيسة التفت إليّ وقال: لا تنسي… ستستيقظين بعد أن تنامي وقد نسيتِ ما أخبركِ، والمسيح هو ما أقسمتِ به أنك ستفعلين.
لم أستطع حتى أن أغير وقفتي، بقيتُ أتأمل المسيح المصلوب، كان يبدولي لأول مرة حزيناً، كنتُ حزينة لأجله، لقد كان محقاً؛ لم يكن عليه أن يخبرني، ولكن ما الذي شعرتُ به في تلك اللحظة؟ لا أعلم…
شعورٌ جميل كان يراودني، أن أكون حبيبته لم يبدُ خيانة أو سوء تفكير أو أي شيءٍ يجعل منه سيئاً، فجأة عرفتُ ما علي أن أفعل، علي أن أقضي الساعات القليلة المتبقية قبل أن أنام مستمتعة بحقيقة أنه يحبني، لا وقت لأفكر إن كنتُ سأحبه أو أي من التعقيدات والاحتمالات التي تدور في ذهن فتاة مثلي في موقف مماثل.
جريتُ خارج الكنيسة وناديته بصوت مرتفع، وأخذته جانباً طالبة منه أن أتحدث معه، سألته: إلى أن أنام أملك الحق في معرفة أنكَ تحبني وأن أتصرف على هذا الأساس، صحيح؟
نظر إلي مستغرباً سؤالي، كان يتوقع أنه سيرحل حزيناً من الكنيسة دون أن ينظر إلى عينيّ، ولكنه اضطر للنظر، واستطعتُ أخيراً أن أرى الحب في عينيه، أن ارى أمراً أجمل من كل الأمور التي رأيتها في عينيه طوال تسع سنوات.
“نعم، لك كامل الحق في أن تعرفي”
حينها تجرأتُ وطلبتُ منه أمراً قد يكون أجرأ ما طلبته في حياتي..
“أعلم أن الأمر قد يكون غريباً، ولكن أريد نجلس سوياً في مكان ما، أي مكان تختاره أنتَ، وتحدثني كحبيبتك، لن تشكو لي شيئاً اليوم، وأيضاً عليك أن تمسك يديّ”
شعر حينها بغبطة تملكته، ورأيتها في عينيه، وافق بابتسامته الطفولية وهزة من رأسه، ودعنا الآخرين على عجل وركبنا في أول تكسي وجدناه وأخذنا إلى حيث توقعتُ أن يطلب الذهاب؛ قلعة دمشق.
جلسنا هناك على حافة مقابلة للقلعة، كانت الساعة السابعة، أي لدينا حوالي الساعتين قبل أن تتوجب علي العودة إلى منزلي.
لم يكن يخبرني بشيءٍ جديد، كل ما اختلف أنه كان يخبرني بذات الأمور ولكن بضمير المخاطب – أنتِ – بدلاً من ضمير الغائب – هي – وعلى الرغم من ذلك فقد شعرتُ بعالم كبير ينشأ من جديد من حولي، شعرتُ بكل شيء جميل، فجأة مُسحت كل الذكريات البشعة من ذاكرتي، كل حقدي على جنس آدم رحل حين أمسك يدي، حين ضغط عليها، حين وضعتُ رأسي على كتفه دون بكاءٍ وقبل جبيني عدة مراتٍ.
أصبحت الساعة التاسعة وبات علي أن أعود إلى المنزل، كنتُ أود لو أعود سيراً على الأقدام ولكن الأهل لن يتفهموا هذه القصة، أنا نفسي لم أفهمها حتى هذه اللحظة.
وصلنا بالتكسي إلى قرب باب المنزل، لم أكن أعرف كيف علي أن أودعه، هل كما اعتدنا؛ أن يقبلني قبلة واحدة على وجنتي أم طريقة أخرى تتناسب مع علاقة استمرت لساعتين وربع الساعة؟
اختصر عليّ التفكير واقترب مني وعانقني للمرة الثانية في هذا النهار؛ “تصبحي على خير حبيبتي”، لأول مرة تأتي هذه الكلمة التي طالما ناداني بها في مكانها الصحيح، في مكانها الأجمل.
عدتُ إلى المنزل، ودخلتُ غرفتي فوراً أتأمل ما قال لي، ثم ودون أن أفكر اتصلت به وطلبتُ منه أن يتصل بي حين يصل إلى منزله، وفعلاً حين وصل اتصل بي على الهاتف الأرضي دون أن ينزعج أهلي، فهم اعتادوا على اتصالاتنا المتأخرة واثقين من أخي الذي لم يلدوه لي.
استمر الاتصال حتى الرابعة صباحاً، وكنتُ أترجاه ألا يغلق، أجبرته أن يقوك “أحبك” عشرات المرات، وفي النهاية كان عليه أن ينام ليستطيع الاستيقاظ إلى كليته، وتركني وحيدة من جديد.
خطرت لي حينها فكرة غريبة؛ إن لم أنم أستطيع أن أقضي يوماً آخراً مع ذلك العاشق المجنون بي، قررت ألا أنام وبذلك أستطيع أن أقضي معه يوماً آخراً، لم أعلم ما ذلك الشعور الذي راودني، ولكن كان من الممتع أن أرى منه ذلك الجانب الذي طالما أخبرني عنه ولم أره وجهاً لوجه.
حين أصبحت الساعة التاسعة والنصف اتصلتُ به وأخبرته أنني سأكون في جامعته بعد انتهاء محاضرته، وعند الساعة الثانية عشرة كنتُ هناك بعد أن شربتُ الكثير من القهوة على أشكالها كي لا أنعس، في ذلك اليوم لم أكن بالفعل نعسة، فقد جربتُ قبلاً أن أستيقظ ليومين متواصلين أثناء الامتحانات.
التقيتُ به وأخبرته أنني لم أنم، وأنني مازلتُ أذكر أنه يحبني، تفاجأ بما قلتُ له، ولكن ليس كثيراً، كان يتوقع ذلك ربما، فهو من كان يوبخني لقلة النوم أثناء الامتحانات، بقينا سوياً جالسين على أدراج كليته حتى أصبحت الساعة السادسة مساءً، حينها طلب مني أن أذهب إلى منزلي وأنام كي لا أرهق نفسي فأنا الأخرى عندي جامعة ألتزم بدوام فيها، ولكني رفضتُ.
هذه المرة قررتُ أنني أريد أن أرقص معه، ذهبنا إلى حفلة مبكرة في أحد النوادي، رقصنا هناك، وكنتُ أشعر بغبطة كبيرة لأني أرقص معه لأول مرة بمتعة لا محدودة، بالطبع كنا في قمة التفاهم في الرقص، فتسع سنوات من الرقص معظم الوقت سوياً في الحفلات كان كفيلاً بذلك.
انتهت الحفلة عند الساعة العاشرة مساءً، أوصلني إلى المنزل، وكما يوم أمس عانقني، عانقني بعد أن طبع قبلة على وجنتي وذهب، دخلتُ إلى المنزل وقد فعل المشروب فعله برأسي النعس، استلقيت على السرير وكدتُ أغمض عيني، إلى أن تذكرتُ القسم الذي أقسمته، فتحتُ عيني وطار النوم منهما، انتظرت نصف ساعة ثم اتصلتُ به على منزله، رد هو لحسن حظي واستمر الاتصال لساعتين متواصلتين.
وكليلة أمس قررتُ أن أقاوم النوم لليلة أخرى مقابل يوم آخر من ذلك الشيء الذي لا أعلم ما اسمه بعد، شربتُ المزيد من القهوة والمزيد والمزيد ولكن عبثاً؛ النوم يتسلل مهما حاولت قمعه.
في اليوم التالي اتصلتُ به باكراً – عند الثامنة صباحاً – وطلبتُ منه أن يؤجل محاضراته وكل أعماله كي أراه، جاء إلى قرب منزلي لنخرج سوياً من هناك، صعدنا في التاكسي وصعد في المقعد الخلفي معي، حين ترجلنا من التاكسي لنجلس في أحد المطاعم القديمة أخبرته بأنني لم أنم مرة أخرى، فصفعني وقال لي: بلا جنان، خلص لا تخليني إندم إني خبرتك.
قضينا حوالي الثلاث ساعات سوياً وبالفعل هذه المرة لم أستطع أن أقاوم نعاسي أكثر من ذلك، طلبتُ منه أن يوصلني إلى المنزل، عانقني من جديد ولكن هذه المرة كان العناق هزيلاً، فقد كان جسدي مرهقاً لأقصى الدرجات وخمسون ساعة دون نوم أضف إليها الكحول والتجوال الطويل لم تكن بالأمور المريحة، رحل وصعدتُ إلى منزلي حزينة وأنوي النوم هذه المرة، بعد أن فتحتُ الباب اكتشفتُ أمراً سيئاً أو جيداً، لا أدري فقد كان النعاس يجعل من التمييز بينهما أمراً صعباً.
إني أحبه، هذا ما اكتشفته، متى بدأتُ بحبه؟ لا أدري ولكني الآن أحبه، أخرجتُ هاتفي الذي لم يتصل بأحد غيره ليومين، رد عليّ ودون حتى أن أقول “ألو” قلتُ له: أرجوك عد إلى هنا، إصعد إلى المنزل الآن”
لم يكن في المنزل أحدٌ لحسن حظي كي يلاحظ إرهاقي، كنتُ واقفة على باب المنزل وهو مفتوح أنتظر وصوله، لم يستغرق الكثير؛ حوالي الخمس دقائق ولكنها بدت كسنة مع النعاس والإرهاق الذي أضناني، وصل أخيراً.
وحين أصبح أمامي كنتُ قد انهرت نهائياً ووقعت، لم يصل رأسي إلى الأرض فقد أمسك بي كما يمسك بدمية بحكم أن وزنه هو ضعف وزني، حملني إلى سريري، وجعلني أستلقي، لم يكن جاهلاً بسبب تعبي، حينها قلتُ له الأمر الجميل الذي أنعش صدري دون أن ينعش عيني.
“الله يخليك ما بدي إنسى إنك بتحبني، هي أحلى شغلة بسمعها بحياتي، أنا بحبك كمان.”، فرد عليّ:”بس إنتِ حلفت بيسوع، وإنتِ بتآمني بهيك شغلات، ما بتخافي من الشعور بالذنب”
” اتروك يسوع عليّ وسامحني إنت من جهتك بهالوعد”
حينها نزلت دمعة من عينيه وأنا أحاول أن أقاوم النوم قدر المستطاع، وبعد دقيقة من الصمت طبع قبلة على جبيني وقال لي: خلص… نامي!