النفق

حين نخاف من الصحيح داخلنا نكون قد خضعنا للفزاعة دون نيّة بالرجعة، حين نسلم أنفسنا ليد العدو الذي نحاربه منذ ولدنا، حين نسمح للخوف من أن “نكون مخطئين” يتسرّب إلى قلوبنا، في ذلك الحين تنهار الدنيا فوق رؤوسنا، في ذلك الحين تنهار التربة فوق لحدنا.

كنتُ بانتظارها دون صبرٍ كي أقدم لها الخاتم الذي لطالما حلمتُ أن أشتريه لها، لم يكن خاتم خطوبة، فعمر الثانية والعشرين ليس عمراً مبشراً بالزواج في وطني أبداً، لا أدري لماذا واعدتها في هذا المكان بالذات،لماذا على ذاك الكرسي بالذات؟

كانت هناك بعض الأوراق التي لا بد من تخليصها من الجامعة ولكن على الرغم من ذلك لم يكن هذا السبب الذي جعلني أواعدها في الجامعة، واعدتها في المكان نفسه الذي التقتْ فيه عيوننا للمرّة الأولى. كان ذلك في سنتي الثانية في الجامعة وسنتها الأولى.ربما لم نتعرّف على بعضنا إلا في الأسبوع الأخير من السنة، ولكن بعد أن أخبرتُ إحدى صديقاتي التي كانت تعرفها أخبرتني أن إعجابها بي كان أكبر عمراً من معرفتنا بكثير، أكبر بحوالي الستة أشهر ربما.

حينها أخبرتني أنها أعجبت بي منذ دخلتْ الجامعة، حين كانتْ تراني في بعض محاضرات مواد السنة الأولى التي لم أجتزها بنجاح بعد، وعلى الرغم من يأسها من احتمال قيام علاقة بيننا لذلك السبب السخيف الذي ظنتْ أني أكترث به فقد بقيتْ تتابعني طوال الوقت، وتقرأ درجاتي في المواد.تأخرتْ سلام، اتصلتُ بها لأطمئن عليها، رن الهاتف قليلاً ثم سمعتُ صوتها بين ضجيج لا يطاق حولها:

-أين أنتِ حبيبتي؟

-أنا في نفق المشاة، هل وصلتَ إلى الجامعة؟-نعم، أنا في المكان بانتظاركِ، ولا أظنني سأطيق الانتظار حتى تصلي.

-لا لن أتأخر، ولكن النفق يختنق من الازدحام، دقيقتين وأصل.النفق..!؟

أحياناً أرغب بالضحك حين أتذكر أننا عشنا أولى لحظاتِ عشقنا في ذاك النفق، كنتُ قادماً بعجلة إلى الجامعة ومعي فتاة أحاول التقرّب منها، عند مدخل ذلك النفق عرفتُ أن سلام وكل ما حصل بيني وبينها فيما بعد كان خطة قد رسمها الرب لي.عند مدخل النفق المزدحم، من بين كل الفتيات هي، ومن بين كل الشبان أنا، ارتطمنا ببعضنا، بعد أن كانت قد مرّت أيام ننظر إلى بعضنا في كل مكان نلتقي فيه، ارتطمنا ببعضنا، ووضعها القدر دون مشيئتي على بعد سنتيمترين مني، ولم أجد أمامي حينها إلا أن أتخذ الخطوة التي كان لا بد لي من اتخاذها، حييتها بكلمة من حرفين، وسرتُ خطوتين ثم أدرتُ نظري إلى الخلف وكانت هي تفعل مثلي أيضاً.

تلك اللحظة كما وصفتها لي منحتها إحساساً غريباً…

“مرحباً..”، وطبعتْ على خدّي قبلة، وجلستْ بجانبي، وبدأت الحديث كالعادة بالشكوى من الازدحام والهواء الملوث في دمشق، والذي لم تكفِها سنتان لتعتاد عليه.

ثم قالت لي جملة أفزعتني، كانت ذات الجملة التي انفصلتُ فيها عن الفتاة التي سبقتها.

“هناك موضوع علينا الحديث به…”

كنتُ أخاف أن تكون قد أخذت بعين الاعتبار الاختلاف الذي يفصل بيننا، ذلك الاختلاف الذي نجحنا في تجاهله لسنة كاملة، الذي نجحنا في جعل كل من حولنا يتجاهلونه، كنتُ أخاف أن تكون الفزاعة وأتباعها المحيطين بها من أصدقائها وأقربائها وكل الخاضعين للفزاعة قد أقنعوها بالخضوع أخيراً للفزاعة بعد أن خالفنا إرادتها لسنتين، ورفضنا أن نطأطئ رؤوسنا لها.

قالتْ: أعلم أنك ضحيتَ بالكثير لأجلي، أعلم بالخلافات مع أهلك وأصدقائك والجميع من أجلي، أعلم أننا أحببنا بعضنا وتحدينا العالم بهذا الحب، ولكن عليك أن تبدأ بالتفكير بمستقبلك، فقد قارب مستقبلي الاجتماعي على البداية، لا أظننا سنستطيع أن نتحدى الجميع أكثر من ذلك، أظن أن الأوان قد آن لنكون واقعيين بمشاعرنا وننفصل، أنا أحبكَ ولا أظنني سأحب إنساناً كما أحببتك، ولكن لا بد لي من أن أحترم رأي أهلي في هذا الموضوع، فقد فاتحتُ أمي بهذا الموضوع وعارضت الأمر بشدة، وطلبت مني أن أنهي ما بيننا قبل أن نتعلق ببعضنا أكثر من ذلك.

في تلك اللحظة خطرني مشهدٌ واحد، كنا حينها في أحد مطاعم دمشق القديمة، كانت الأحاديث كما كل جلسات الشبان الصغار تنجرّ إلى الحديث عن العلاقات، وبحكم انتمائي وأصدقائي بمن فيهم سلام لأكثر من خمس طوائف تحدّثوا عن العلاقات بين المختلفين دينيّاً والتعقيدات التي تواجهها اجتماعيّاً وقانونياً ونفسيّاً، وثم بدؤوا بتخصيص أسئلتهم لي ولها في محاولة ليعرفوا عما إذا كنا جادين في علاقتنا وننوي الاستمرار حتى الزواج، كان من الواضح أن الموضوع يهينها، أو على الأقل يزعجها.

أذكر أنني حينها وقفتُ عن كرسيي، وصرختُ بهم جميعاً وأنا أقف ورائها مستوعباً كتفيها بكفيّ:” لا يهمني ما تعتقدون عن استحالة علاقتنا، وما تعتقده كل البلد، أنا أحبّ سلام وهذا يكفيني كي أموت حتى في المحاولة للبقاء معها”. ورميتُ نقوداً على الطاولة وذهبتُ.

لم أكن قد استمعتُ لصوت الفزاعة في داخلي منذ بدأت علاقتنا، ولكن آخر ما كنتُ أتوقعه أن تستمع له هي، آخر ما كنتُ أتوقعه أن تسلمني بيدها للفزاعة ليحكم عليّ بالإعدام.

 لم أعلم ماذا أرد عليها، لم أعلم ماذا أقول بعد أن خذلتني وتركتني وحيداً في المعركة، أو لا… لم تكن تلك معركة بعد الآن، فعدونا يكفيه أن يأخذ أسيراً واحداً من جيشنا المؤلف من ثلاثة – أنا هي والله – كي تنتهي المعركة.

” حبنا أقوى من حجتك بألف مرة، ورغم ذلك حجتكِ تلغي حبنا وتجعله دون معنى، لكِ كل الحق في أن تخافي ولكن قد  كان لكِ ذاك الحق منذ سنتين قبل أن أربط مصيري وحياتي بكِ، قبل أن أربط إيقاعاتِ قلبي بإيقاعات قلبكِ، لن أمنعك، أصلاً ليس لي الحق أن أمنعكِ عن شيءٍ بعد ما قلتِ ما قلتِ، ولكن أرجوكِ ارحلي بهدوءٍ من هنا ودعيني أنا اخبر أصدقائي لا أريد أن يشعر الناس أن المجتمع وفزاعته قد انتصر أخيراً علينا..”

نهضتْ لترحل، ضمتني وأنا مازلتُ جالساً، لم أحرّك ساكناً أمام عناقها، لم أحرّك قطرة دم في عروقي حماساً لعناقها، لم تشتعل في حتى قطرة من الشهوة حين قبلتني مرتين من عنقي وهي تعانقني.

مررتْ يدها على خدّي وهمّت بالمسير ولكن لسببٍ ما أمسكتها من يدها موقفاً مسيرتها، خلعتُ الصليب عن رقبتي، كان صعباً خلعه بيدٍ واحدة، فقطعت الطوق قطعاً عالماً أنه لن ترديه أصلاً.

وضعته في يدها بهدوء، وأفلتُ يدها مشيراً إليها بالرحيل…” ولكنه صليبكَ، لقد رفضتَ لسنين أن تمنح صليبك لأي كان، كنتَ تقول أن الرب ما كان ليمنح صليبه لأحد، وأساساً أنا لن ألبسه…”

“لقد كانت علاقتي بكِ صليبي الكبير الذي كنتُ أفرح بحمله، لم يعد لديّ صليب الآن، على كلٍّ ضعيه في محفظتكِ سيكون ذلك كفيلاً بحمايتكِ..”و رحلتْ، وبقيتُ أنا وفزاعة في داخلي تهزأ بي لأني تجرأتُ وتحدّيتُ الفزاعة الأكثر جبروتاً والأكثر تسلطاً على أمتي.ربما المرة القادمة سأبحث عن فتاة لا تمنعني الفزاعة عنها…