كنا في ذلك المقهى الغربي ننهي النقاط التي اتفقنا عليها، كان واحداً من تلك المقاهي التي تعتمد النمط الأمريكي في تصميمها ومشروباتها وأسلوب الخدمة وزبائنها، كنتُ منذ عدة أيام أفكر إلى أين وصلنا، لم يكن السبب الذي يجعلني أفكر بذلك هو الموت أو المآسي الكبيرة التي تحيط بنا كما يحصل للجميع، بل كانت تلك المآسي الصغيرة جداً، الانتظار الطويل قبل الحصول على وسيلة نقل تأخذنا إلى المنزل أو إلى العمل، كان وقوفي صباحاً بانتظار باص ورؤيتي للسيارات الخاصة تمر بقربي مستفزاً، كل سيارة تمر كانت تحتوي شخصاً أو اثنين، أعلم بوضوح أنهم يتجهون إلى حيث أنوي التوجه، وحيث ينوي العشرات الآخرين الواقفين أمامي بانتظار باص التوجه، ولدى أولئك الذين يسوقون السيارات مقاعد فارغة في سياراتهم، لماذا لا يقومون ببساطة بتوصيلنا؟ لماذا لا يقوم أولئك الذي يعملون أكثر من عمل بالتخلي عن أحدها لأولئك الباقين دون عمل، أو لماذا لا يقوم أولئك الذين يملكون منازلاً خالية بفتحها لأولئك الذين دون منازل، لماذا لا تحصل الكثير من تلك الأمور التي تخرج الثروات المكدسة ليستفيد منها أولئك الذين لا يملكون شيئاً؟
قاطع أفكاري نقرٌ على كتفي، التفتُ، كان طفلاً، ليس طفلاً، لا أدري، بالنسبة لعمره كان طفلاً بالتأكيد، ولكن ما كنتُ أراه في عينيه لم يكن طفلاً، كانت عيناه زرقاوان، لم يكن ينظر بحزنٍ، إنما بوقاحة، بدون ملامح على وجهه كما لو أن لديه مهمة ويريد إنهاءها بأسرع وقتٍ ممكن، كان متسولاً، طلب مني نقوداً، طلبها بوقاحة، “أعطني نقوداً”، لم يحاول أن يستجر شفقتي أو أن يدعي لي بالتوفيق ونوال الفتاة التي أحب، لا! طلب النقود وانتظر أن أعطيه، وكأن ذلك واجبي وطلبه مني هو مجرد شكليات، التفتُ إلى الجالسين على الطاولة، وشاركتُ في الاستماع لما كان يقوله اثنان منهم، لم أكن مهتماً ولكن كان عليّ تجاهله، ماذا؟ أعلم أنني كنتُ أتكلم عن العدالة، ولكن ذلك كلام، أنا لستُ ممن يكدسون الثروات حتى أقوم بمساعدته، كنت قد وضبتُ أغراضي في حقيبتي وأنتظر كي أذهب، كنت بانتظار صديقي الذي سيوصلني إلى حيث أستقل باصاً إلى منزلي، حيث سأنتظر ساعة كاملة أو أقل على الأغلب، في حين أتفرج على السيارات التي يملؤها شخصٌ واحد أو اثنان تأتي وتذهب.
عند الخروج، قاطع طريقنا صوت صراخ، وذاك الصبي يحمله أحد العاملين في المقهى، وصل إلى الباب، وكنا نحن نخرج خلفه، فجأة توقف عن الصراخ وصدر صوتٌ آخر من الداخل، كان صوت عدة شبابٍ وشاباتٍ يغنون أغنية عيد الميلاد لصديقهم، شعرتُ حينها بسخرية القدر، كيف جسد هذا الطفل الذي يتسول للحصول على بعض النقود والشاب الذي يحتفل بعيد ميلاده في مقهىً أمريكي انعدام العدالة التام على الأرض، ولكن بالطبع لم أعطه نقوداً.
ماهر أسمر – صحفي
كانت تلك ليلتي الأخيرة في دمشق، لم يكن بإمكاني المكوث لوقتٍ أطول هنا، كان علي العودة إلى قريتي، هناك ما زالت بعض حوادث الاختطاف والقتل تحصل، ولكن ما من خيارٍ آخر، لم يعد لدي عمل، ولا يمكنني تحمل تكلفة استئجار غرفة في دمشق بعد اليوم، كانت تلك الليلة قبل يومين من عيد ميلادي، وكان أصدقائي يصرون أن يروني، كنت أتهرب من الموضوع، ولكن ليس لأنني لا أريد رؤيتهم، إنما لم يكن معي من النقود ما يكفي للجلوس في ذلك المقهى الذي يريدون لقائي فيه، ومن ثم دفع ثمن تذكرة الباص، لكنهم أصروا، لا بأس، بكل الأحوال هو مقهىً ذو طابعٍ أمريكي، أي ليس مهماً إن لم تطلب شيئاً، سأتهرب من أن أطلب مشروباً، وأسارع في الذهاب.
حين جلستُ معهم كنت أضم ساقيّ إلى بعضهما، وكانت صديقتي تقول لي لماذا أنتَ مرتبك؟ لم أكن متربكاً، كان هناك اهتراءٌ في بنطالي عند الفخذ اكتشفته قبل خروجي من المنزل الذي أخليته على دفعات لمدة أسبوع، لم أرد أن يروه، كان القلق يسيطر علي طوال الوقت، كان علي أن أراقب الجميع طوال الوقت، حين يكون هناك بعض اللحظات التي أكون متأكداً فيها أن ما من أحدٍ ينظر نحوي أو نحو قدمي، أباعدهما قليلاً كي أريحهما، ومن ثم أعود لملاصقة قدميّ والمراقبة.
بعد أن جلسنا لحوالي الساعة، وكان كل الحديث متمحوراً على ترجيات صديقاتي وبعض أصدقائي أن أجد حلاً أو تسوية كي لا أذهب إلى هناك، كانوا يتكلمون عن ذهابي إلى قريتي وكأنني أنتحر، ولكن لم يكن هناك بالفعل ما أجيبهم به، وكأني أنا لا أريد البقاء في دمشق، بعد مرور الساعة أحضروا كعكة ميلاد من أجلي، كنتُ على وشك البكاء، ليس فرحاً بما فعلوا، ولكن لم أتمكن ولا مرة من الاحتفال بعيد ميلادي في يومه، دائماً بسبب انشغالي وانشغال أصدقائي كان علينا الاحتفال به في أقرب يوم عطلة أسبوعية منه، وذلك بسبب حظي السيئ الذي جعلني أولد في الشهر الوحيد ربما في السنة الذي لا يتضمن أي عطل رسمية.
كان هناك متسولٌ قد دخل المقهى قبل ثوانٍ من دخول الكعكة، حين كانوا يغنون لي أغنية عيد الميلاد كنتُ أتأمله، مراهناً نفسي أنه يملك عن طريق التسول مالاً أكثر مني، أكثر مني بكثير على ما أعتقد.
علاء الدين أيوب – لاجئ سوري
انتظرتُ طويلاً حتى تمكنتُ من الزواج منها، كانت حوالي الثماني سنوات، عملياً هي اثنتا عشرة سنة، ولكن السنين التي كانت متزوجة فيها هي ثماني سنواتٍ، كنا نسترق النظر لبعضنا في المناسبات الاجتماعية التي تجبرنا على اللقاء أمام الآخرين، ولكن لم يكن هذا الوضع سيئاً، كان يضيف بعض الإثارة والرومانسية إلى علاقتنا، وأعتقد أن تلك الأيام الصعبة هي السبب في قدرتنا على التماسك اليوم.
فكرنا كثيراً بعد وفاةِ زوجها، كانت خائفة من رد فعل الجميع من حولها، خصوصاً أن في طائفتنا ليس أمراً اعتيادياً زواج المرأة بعد أن تترمل، وكنتُ قد بدأتُ أعاني بعض التردد بعد أن أصبح لديها ولد، عمره كان ست سنواتٍ حين ترملت، وليس أمراً سهلاً أن تدفع طفلاً في هذا العمر إلى أن يحبكَ، ولكن لا بأس، قبلتُ التحدي، تزوجنا، وأوضاعي المادية السيئة التي منعتني من الزواج بها في البداية كانت قد ذهبت إلى غير رجعة، ولكن انتقالي من الفقر المدقع إلى الغنى الفاحش جعلني – رغم وفرتها – أقدر قيمة النقود، وأفهم كم من العمل المضني يجب أن يبذل من أجلها.
ذلك الصبي المدلل لم يكن يفهم، هو في عمر الثلاث عشرة سنة الآن، ورغم ذلك منذ الآن ينفق النقود كيفما شاء دون أي توفيرٍ أو احترامٍ لجهدي في الحصول على تلك النقود، هو ليس ابني، وقد قبلتُ أن نقوم نحنُ بتربيته فقط بسبب حبي لها، ولكنه قد تمادى.
كان هاتفه جديداً، اشتريته له منذ ثلاثة شهورٍ فقط بمبلغٍ أحتاج يومين كاملين لأجنيه، ولكنه الآن يطلب هاتفاً آخراً، غضبتُ جداً منه، وبعد أن تشاجرتُ معها طالباً منها أن تكون أكثر حزماً معه، أعطتني صلاحية كي أؤدبه بطريقتي، اشترطتْ علي ألا أضربه، بالطبع لن أفعل، ولكني وجدتُ طريقة أكثر دهاءً كي أجعله يشعر كم من الصعب الحصول على النقود، قلتُ له “اِذهب، اُخرج من المنزل، ولن أسمح لكَ بالعودة قبل أن تأتيني بألفي ليرة”، سألني “كيف أحصل عليها؟ لا يمكن في يومٍ واحد أن أحصل على هذه النقود من العمل”، قلتُ له “الكثير من الناس في الطرقات يملكون النقود، جرّب أن تطلب منهم ذلك”.
جميل حداد – موظف حكومي
أروع ما كتب مناف زيتون حتى الآن .. برأيي الشخصي ..