الموت بدمٍ بارد

اِبدأ بالكتابة عن تلك المشاعر الغريبة التي تراودك حول كل الموت الذي يجري حولك، كن حذراً فهذه المرة ستنشر على مدونتك الشخصية، كن حذراً كما كنت طوال هذه الفترة، فأنتَ لا تريد أن تسجن مجدداً أو أن تتم تصفيتك بدمٍ بارد، حسناً الآن بما أنكَ استعدتَ حذرك قبل البدء بالكتابة قل ما لديك، دمٌ بارد، ما معنى هذا الشيء؟ وكيف تتم تصفية الأشخاص بدمٍ ساخن؟

حين كنتُ صغيراً أتذكر قراءة بعض القصص المثيرة حول وفاة أشخاصٍ بطرقٍ غريبة، اليوم بات لدينا مئات، بل آلافٌ من هذه القصص، سنؤلف كتباً عن هذه الوفيات كلها، ونبيعها في كل أنحاء العالم كي نضيف بموتنا بعض الإثارة على قراءات أخوتنا في الغرب، عفواً أصدقائنا، أخوتنا نستخدمها لوصف العرب، وبثمن هذه الكتب سنعيد إعمار سوريا الجديدة، وربما يدفعون لي ثمن غطاء العدسة، حتى الآن ثمنه يتسبب لي بأزمة مادية، هل حقاً تهتم بغطاء عدسة والناس تموت؟ لا أدري، ربما، وما زلتُ أهتم برد تلك الضربة التي تلقيتها على ركبتي أيضاً.

دعنا من هذا الحديث، وابقَ حذراً، هل تصفحت الإنترنت اليوم؟ كم هو عدد الشهداء؟ لا أدري، ولكنه رقمٌ كبير، بكل الأحوال سأنساه بعد أن أقرأه مباشرة، وغالباً لن أعرف الرقم الحقيقي، وحتى تلك الإشاعات التي تنتشر كل يوم وتبشرنا بأن البلاد ستعود لسابق عهدها خلال ساعات معدودة، لم تعد مثيرة للاهتمام، كلها كذب.

يوم أمس قالوا أن الأمور بخير، ولكنها لم تكن بخير، مات البعض، والبعض الآخر بات بلا منزل، وفوق ذلك كله لم أتمكن من النوم بسبب أصوات الرصاص والانفجارات القريبة من منزلي، لم يعودوا يتركون لنا فرصة كي ننام، ولكن ماذا عن أولئك الذي لم يتركوا لهم فرصة أن يعيشوا؟ النوم الحياة، الأمران متشابهان، الموت أفضل من البقاء مستيقظاً تشاهد الموت، أريد أن أنام، لا أريد أكثر من ذلك، وحين أستيقظ لا أريد أن أفكر أن في ساعات نومي القليلة قد مات المزيد، ماذا تريد أيضاً؟

أريد أن أسمع أصوات القصف والرصاص وأفكر أنها احتفالية في الهواء، أريد أن أسمع تلك الأصوات ولا أفكر أو أحاول أن أعرف أي منها التي قتلت وأيٌ منها التي تسببت بإصابات وأيٌ منها التي أصابت الطرقات فقط، أريد أن أسير في الطرقات بلا حقد، أن يعود العالم لينقسم إلى القسمين المعتادين، أنا والآخرين، وليس كما أصبح اليوم، أريد أن أفكر في الجميع على أنهم بشرٌ طبيعيون لا يعنوني في شيء، أريد أن أمر من الحاجز ولا أنظر في عيني الجندي الذي يأخذ هويتي، لأنني أعرف أن كل جندي منهم هو مشروع موت، أريد أن أنظر في عينيه وأرى شيئاً من الكراهية كي لا أحزن لموته، ولكن عبثاً، لم أرَ من الكراهية في عين أي منهم ما فيه الكفاية كي يموت، توقف هنا!! لماذا؟ كلامك يبدو وكأنك موالي الآن.. وما المشكلة؟، هل تريد أن يقال عنك شبيح؟، لا أعتقد، ولكن ألم يقولوا هذا عني بعد؟، على حد علمي لا…

سأتابع وكف عن مقاطعتي، أريد أن يعود صديقي إلى الحياة، وأن يعود أصدقائي إلى سوريا، هل تفكر في أصدقائكَ والناس تموت؟ ماذا تريد مني أن أفعل؟ أن أتوقف عن حب أصدقائي لأن الناس تموت؟ أن أتوقف عن الأكل والشرب والحب لأن الناس تموت؟ نعم الناس تموت، ولكن ما ذنبي أنا؟ الناس تموت وكفاني عقاباً أنني مضطر أن أجلس متفرجاً أمام شاشة حاسوبي المتسخة دون أن أستطيع أن أنقذ روحاً واحدة، هل تعلم كم هو مزعجٌ أن يموت الآلاف في بلدك الذي يسير في دمك ولا تسطيع إنقاذ شخصٍ واحد؟ بكل الأحوال كف عن معاتبتي، جميعنا نعرف من الذي قتل ومن هو المجرم، فقط القاتل هو الذي يتحمل مسؤولية هؤولاء الذين ماتوا.

ومن الذي قتلهم؟ المجرم، ومن الذين ماتوا؟ الضحايا، ومن هم المجرمون والضحايا؟ المجرم هو الذي يضغط على الزناد، الضحية هو الذي يموت بسبب الرصاصة التي انطلقت بسبب ضغط المجرم على الزناد… أليس كذلك؟

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها