ميرون

كنا نسير سوياً على رصيف ذلك الطريق السريع حيث لا تستطيع أعين المارة بسياراتهم أن تلتقطنا، لم نكن نفعل ما يعيب ولكننا كنا نحب، وذلك على حد علمنا كان ممنوعاً علينا في الشرق الذي نعيش فيه.

أعرف أنها تقف هناك بجانبي، أعرف أنها تنتظر مني كلمة واحدة، أعرف أنها ليست في مكان بعيد. رأسها على كتفي، يطلب مني المزيد من الحنان، لا أعلم ماذا أفعل، وهي لا تعلم ما هي فاعلة، دون قيود، دون محاولات لحساب المستقبل، رأسٌ على كتفي ويدي عليه تمسّد شعرها، وفجأة تراودني الذكرى البشعة حين دخلتْ الفزاعة حياتي …

كان أبي يحكي لي حينها قصة زواج ابنة عمي وابن عمتي، يصف لي ملامحهما، فأنا نادراً ما أراهما، لا زيارات معلنة بيننا، حين وصف لي المعارضة التي واجهاها، لم يستطيعا التواصل مع العائلة مجدداً حتى وفاة جدي، ولكن حتى التواصل الذي عاد لم يكن بالمستوى المفروض وجوده بين أبناء العمومة.

حين سألته لماذا لم يوافق جدّي وبقية العائلة على ذلك الزوج، كان جوابه بأن السبب هو كونهما أقرباء من الدرجة الثانية.

و حين سألته وماذا في ذلك؟ قال كلمة السر التي أيقظت الفزاعة في داخلي.. حرام.

لم أفهم لماذا حرام، ومن قال أن ذلك حرام، فقد قرأتُ الإنجيل مئة مرّة ولم يمر معي ما يتحدث عن زواج بين أقارب مسموح وغير مسموح، ضعتُ في متاهاتٍ لا أعلم كيف الخروج منها، لم أعد أفهم معنى كلمة حرام، وبدأتُ أسأل نفسي إن كان عليّ أن أطيع الفزاعة المدعوة حرام حتى في حال عدم وجودها حقاً.

لم يعني الموضوع لي شيئاً حينها، ولكن بعد سنتين وحين جمعتني كلية الصيدلة مع ابنة خالتي، بدأ الموضوع يعني لي، بدأ هاجس يراودني كل مرّة ألتقيها، كل مرّة كنتُ أراها جميلة كانت كلمات والدي تعكر عليّ صفو جمالها، وبعد سنتين وجدتُ نفسي واقعاً في حبها، ولم نعلم كيف نخفي الحب عن أهلنا.

في لقاءات العائلة بتُ أبتعد عنها خوفاً من أن يشعروا بنا. قبل أن نحب بعضنا كنا نلتقي أكثر، كانت تزورني وكنتُ أزورها، ولكن الآن لم نعد مجرّد أنسباء، ولم يعد من السهل أن نقوم بأي شيءٍ دون أن نفترض أن الأعين تراقبنا، وتشعر بما بنا.

أنهيتُ دراستي قبلها بسنتين، وحين تخرّجتْ كانت عائلتي قد بدأت تطالبني بالزواج، وبدأتْ أمي تبحث عن عروس لابنها الوحيد، ولم أعلم كيف أخبرهم أنني قد وجدتُ العروس ولكنني أريد موافقتهم، لم أعلم كيف أفاتحهم بالموضوع، في النهاية قررتُ أن أخبرهم.

طبعاً كانت ردة فعلهم كما توقعتُ، وكانت عبارة أبي بالضبط كما توقعتُ:” إذا أردتَ الزواج بمسلمة لكَ ذلك ولكن إياك أن تفكر بابنة خالتك، أنتما تحملان دماً واحداً، حرام أن يلتقيَ الدم الواحد في السرير…”

لم أفهم ما الذي كان خطأ في زواج شخصين يحملان دماً واحداً، كان الأمر ذاته يحيّرها، كانت قد فاتحت أهلها بالموضوع، ردة فعلهم بالضبط كردّة فعل أهلي.

بقي الصراع بيننا وبين أهالينا لسنة كاملة، لم يمنعونا أن نلتقي كي تعود لنا مشاعر الأخوة تجاه بعضنا على حد تعبيرهم، ولكن تلك المشاعر لم تكن يوماً ما يجمع بيننا.

قبل أن يستند رأسها على كتفي بيومين كنا نزور كاهن رعيتنا، أخبرناه أننا نريد الزواج، قال لنا أن الزواج بين الأقارب ليس ممنوعاً كنسياً، وأنه يستطيع أن يزوجنا، ولكن بالطبع قال ذلك بعد أن حاول لساعة ونصف أن يقنعنا بالعدول عن ذلك، في النهاية طلب منا أن نمهله أسبوعاً ريثما يقوم بالإجراءات اللازمة، وطلب منا أن نحضر له بضعة أوراق.

اليوم كنا في مستشفى القديس لويس نجري تحليلات تؤكد عدم حملنا لأمراض سارية بالممارسة الجنسية كان قد طلبها الكاهن منا، أثناء خروجنا من المستشفى اتصل بنا الكاهن، وقال أن هناك مشكلة وعلينا الذهاب إليه في اللحظة، صعدنا في سيارتي وذهبنا إليه، لم يكن في داخلنا ما يخيفنا، توقعنا أن تكون مشكلة عاديّة تحل بدفع ألف ليرة لموظف البطريركية، ولكن الأمر لم يكن كذلك أبداً…

سرنا باتجاه منزل الكاهن، حين وصلنا كالعادة رحبتْ بنا زوجته التي تعرفني منذ تسع سنوات ومازالت على الرغم من ذلك تلفظ اسمي بالطريقة الخطأ.

“قد كنتُ اليوم أتفقد أوراقكما، وكان هناك مشكلة في معموديتكما، هناك ما يمنعنا من تزويجكما”.

لم أفهم ما الذي قد يمنعنا، فهو كان أساساً قد قال لنا أننا نستطيع الزواج وأن كوننا أقارب لن يقف عائقاً في وجه زواجنا، ولم أفهم أساساً ما يمكن في المعمودية أن يقف في وجه زواجنا، ولكن…

نظرتُ إلى وجهها ويبدو أنها كانت في حيرة أقل مني، كان مصدومة، وجهها ثابت على انطباع واحد، انطباع يشبه اللحظة الذي بلغناها فيها بوفاة أمها، زادت في فضولي حين سألت الكاهن..” وهل يمنعنا ذلك من الزواج..؟”

عمّ يتكلمون؟ ما هو الذي يمنعنا من الزواج؟

” لا يمكن للكنيسة الأرثوذكسية أن تزوج شاباً وفتاة تجمع بينهما علاقة الميرون، الأمر مستحيل..؟”

علاقة الميرون..!؟ ولكن عرابي لم يكن والدها، عرابي كان صديق والدي..

والدي..! لقد كان هو عرابها، هو من حملها في يوم معموديتها، محبة زوج خالتي لأبي جعلته يطلب منه أن يكون والدها الروحي، أن يكون عرّاب ابنته، لم يعلم ربما أن محبته لأبي ستحرم ابنيهما من السعادة للأبد…

خرجنا من عند الكاهن لا نعلم ماذا نفعل، نحب بعضنا، لا أحد سيسمح لنا بالزواج، ولا أحد حتى سيتعاطف معنا لأننا برأيهم نخالف إرادة الرب.

حين جلستُ معها على سور جامعتنا القديمة خطر لي أن الرب لو كان بالفعل يعني ألا يتزوج اثنان يحبان بعضهما لأن والد أحدهما قد حمل الأخرى في حين لم تكن تقوى على الكلام بعد؛ فربما لم أعد مهتماً بعبادة هذا الرب بعد اليوم، وسأقضي حياتي مع فتاةٍ لا أقوى على الزواج بها.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها