زيارة إلى العالم الوردي

أحياناً نشعر أننا قد امتلكنا السماء والأرض، أحياناً تأتينا لحظاتٌ تغير كل ما عرفناه طوال عمرنا، كلمة واحدة تكون قادرة على تغيير العالم.. كلمة واحدة.
وبعد تلك اللحظة نعيش حياتنا من البداية، نعود إلى الطفولة ونطالب بالحنان وبالأم والأب من جديد، نعود إلى المدرسة ونحاول تعلم القراءة والكتابة من جديد، ولا نمانع أن نعيد صفوفاً ودروساً لطالما كانت من أسوأ لحظاتنا، فبعد هذه الكلمة أصبح كل شيءٍ جميلاً، أصبح كل شيءٍ أسهل دخولاً إلى قلوبنا.

نعيش مراهقتنا من جديد، الحب الأعمى الذي دون حسابات، الكره والحب بدون أسبابٍ منطقية، والهروب إلى غرفتنا والبكاء بصمتٍ من جديد. تعيد الأيام نفسها بدون منطق، تسبح سريعة، نعيش كل صفٍ في المدرسة بيوم، ونعيش كل قصةِ حبٍ بلحظة.. بذكرى. نهرب من جديد إلى أصدقائنا ونخاف من ظلام غرفتنا، ونخاف أكثر من الوحدة..”لا أريد أن أكون وحيداً.. ليس من جديد.. أرجوكم لا تغلقوا السماعة، لا تسافروا.. أرجوكم لا تكبروا”
ولكن كل ذلك يبدو جميلاً الآن، أرى العالم من عينيها في كل لحظة، وحين تغيب عني أرى عينيها في العالم كله، في تفاصيله الصغيرة، في أضوائه الحزينة التي لا تمل من العمل، أراها في المكان الذي لا أتوقع أن أراها؛ أراها في بؤس العالم.
تسير الأيام ونحن مستمتعين بالعالم الجديد، مستمتعين بالحياة الجديدة، حيث لا تقوى كل المصائب والكوارث على إنزال الدمع من عينينا، ويصبح الحبيب هو الله بالنسبة لنا، كالله حين لا نكون في الصلاة له نشعر به بجانبنا في كل شيءٍ، يجعل الأمور أسهل أجمل أروع.. وأكثر احتمالاً.
وفجأة.. يختفي الله، ويختفي الحب، يختفي العالم من حولنا للحظات، نبقى وحيدين في اللامكان، تهرب العقارب من ساعاتنا ونعيش اللازمان، وتهرب الدماء من عروقنا، نبقى هكذا، وحيدين بلا دماء وبلا مكان وبلا زمان، كالموتى بالضبط، كالجثث الهامدة تحت القبور التي تحاول ليلاً نهاراً أن تنادينا، ولكنها خالية من الزمان فلا وقت لدينا كي نسمعها، من المكان خالية فتصبح بعيدة أكثر من أن نسمعها، وبلا دماء كافية كي ننقذها.
يعود العالم كما كان، سيئاً ظالماً مليئاً بالقبور، مليئاً بالأنذال، تعود المدرسة ذكرى بشعة والعائلة ذكرى بشعة، ونعود من جديد بلا أب وبلا أم، ننسحب فجأة من تلك الطفولة الجميلة التي عشناها لأيام لشهور وربما لسنين. نصبح كباراً من جديد، يختفي القلب أو يقتل من جديد، ونبحث عن المفتاح الذي يعيدنا إلى ذلك العالم من جديد..
ولكننا لا نستطيع، يجب أن نعمل يجب أن ندرس يجب أن نسافر، ويجب ألا نحب، كل تلك الأمور ستكون بشعة دون الحب، ولكننا على الرغم من ذلك نريدها دون الحب. نعلم أن الحب يدخلنا في حالة من الهذيان، يجعل النجاحات تمر من جانبنا ولا نوليها الكافي من الاهتمام، لا نوليها الكافي من الفرح، فهي مجرد شيءٍ جميل ككل الأشياء الجميلة التي تمر من حولنا أثناء الحب، ولكن الآن نريد أن نكون بكامل يقظتنا كي نستمتع بالنجاح..
كذب، هراء.. افتراءٌ على النجاح وعلى الحب في آن واحد. ليس الحب من يقف في طريق النجاح، وليس الحب من يقف في طريق السفر والدراسة وكل القشور الغبية. النجاح هو من يقف في طريقنا، وليس في طريق الحب وحسب. يجعلنا عميان لا نبصر ولا تسمع ولا نلمس ولا نذوق، يجعلنا ناظرين إلى الشمس البعيدة، غير آبهين بالذين يقفون بقربنا ويقولون لنا:”نحن هنا بإمكانك لمسنا أما تلك الشمس فلا..!”
ولكننا لا نسمع – ألم أقل منذ قليل أننا لا نسمع؟ – لا نريد أن نبحث، تلك الشمس واضحة أمامنا ولا نريد أن نبحث عن شيءٍ لا نراه، شيءٍ يكفينا أن نحرك رأسنا إلى اليسار قليلاً كي نراه، نخاف أن تهرب الشمس من أمامنا حين لا ننظر إليها قليلاً.
“أهلاً بعودتك… هل استمتعت بالعالم الوردي الذي زرته؟”
“نعم.. وأتمنى لو لم أعد إليكَ أبداً..”
“لا تخف.. ستذهب في زيارة جديدة بعد قليل..”
“إلى أين؟”
“دعها مفاجأة… لك ولكل من في عالمك”.
أغبياء، هو بريءٌ منكم يا قليلي الإيمان…

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها