سيدة النجوم

emil-white-painting

لا مال لدي ولا امرأة، أنا حرٌ تماماً. رجال الشرطة سيفحصون هبوط رئتي عند التنهد، وسيعرفون أنني حر تماماً.
الأيدي الخالية لا تنقبض، تفلت الحبال جميعاً وكأنها لم تكن. سأرسم بكفوفي الصفر على الهواء الذي هو كل ما أملك طيراً ضخماً له بطنٌ كبيرة وأجنحة هائلة، وأكتب على معدته المنتفخة من عشاءات يوم أمس “حريتي”، وحين يطير، سأظل حيث أنا، أمام ذات النافذة وذات الأشجار المريضة أكرر لنفسي أنني حرٌ تماماً. ورغم أنني أسير ذات الجدران وذات الجيوب الفارغة، قلبي سيطير بعيداً هذه المرة، سيتفرج على بلادٍ بعيدة ونساءٍ جميلاتٍ يفترشن شواطئ المتوسط، ويصرخ محملاً الرياح الساخنة رسالة إلي، أنت حر الآن، بلاطة على الرصيف تكفيك لتحكم العالم.
كل يومٍ سأقضي ليلتي وحيداً دون حي يرزق، وسيتوزع على السرير والأريكة وسطح الخزانة كل من رياض الصالح حسين وهرمان هسه وياسوناري كاوباتا وهنري ميللر ويوحنا البشير، يؤنسون ليلتي، أتحدث إليهم، ويكررون لي كم سخيفة هي آلامي، يذكرونني أن كل الكتاب يحتلون الأسرّة حين يموتون، ما داموا على قيد الحياة أرواحهم ليست حرة بما يكفي كي تتلبس المساء وتراقبنا أثناء التقافز بين سطورهم، وتلك الأرواح تفهم كل اللغات، لا تهمهم لغة من يتلصصون عليهم. أتأمل عبارة لميشيما وأفهمها كما أشاء، فتعبر روحه من جسدي لثوانٍ مبلغة إياي أنني أخطاتُ التأويل، ترتعش عظامي وأعيد قراءة العبارة الأخيرة باستقامة.
أنا حر تماماً، وحين أنهي كتابي – الذي سيكون رسالة انتحاري غير المطبق – سأترك عليه الإهداء الذي أشاء، لا أكترث بالأحياء فأنا لستُ منهم بعد اليوم، خاوي اليدين والجسد، جيبٌ من اللحم والعظام يخلو من الروح، كل ما في جعبتي تحديقة أبدية نحو الفراغ الذي أغوص فيه، أحاط به وأكونه، فراغٌ كلي يطهر ويغسل توق الجسد الضعيف، وحين يحل الظلام، سأعود حراً تماماً، سأتأمل نجوم السماء بعمق وأشعر بانحناء قاماتها أمام إطلالتي الصيفية عديمة الرونق.
أن تكون حراً تماماً يعني أن تملك كل شيء أو لا تملك أي شيء على الإطلاق. أربعة ملايين لاجئ، أربعة ملايين حر تماماً. ويوماً ما ستنتهي الحرب، ويفقدون جميعاً حريتهم. أنا مكبلٌ بالرغبة، أنا سائل خفيف تبتلعه الشقوق في الأرصفة وأفواه الحشرات الصغيرة، الشمس تنحشر بغلظة بين جزيئاتي، تبخرني، أتفرج على ساقي تهزل وتتطاير في الهواء، على شعري يتناثر كطحالب تنهكها تيارات المياه. أهمس لنفسي بالأسرار المقدسة، أضعني في حلة نحاسية، أتركها قرب دفتر شاحب وقلم، كل الأوجاع تخفف بالكتابة.
هائنذا ألتمس التعافي والشفاء، أخاطب الشمس، أدعوها سيدة النجوم وألامس ظفائرها الهائلة.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها