حاملات الطيب

ما أكملهم، يبكون ترنماً من حناجرهم، يضربون بمطارقهم براعم الاختلاف، يتفقون أن يتفقوا على العرق المحلول بكمية مساوية من الماء، وعلى الغناء، فيهم كل عيوب الدنيا، ورغم ذلك يعيشون كأنهم الأفضل في الدنيا، خمورهم أفضل خمور الدنيا، أبناؤهم أفضل أبناء الدنيا، وعيونهم تختصر القناعة والرضا، كل قناعة ورضا الدنيا، يهمسون لي أموراً لم أدرِ بها، ويقولون لي أننا الأفضل، هكذا ببساطة وروح محلقة، بعد غيابي الأزلي يكفيني كأس من الفودكا وأغنيتين ﻷصير نحن، نحن الأفضل في الدنيا.

أدخل سريعاً في الدائرة، كمن يؤدي دبكة زوربا، يتسارع إيقاعها، ويكون الأمر ممتعاً حين ألحق بالسرعات الجديدة، ولكن فيما بعد يصبح الإيقاع أسرع، أجدني مغادراً بروح رياضية تضع استمرار اللعبة فوق كل الاعتبارات، دائماً أتخيل راقصين يفقدون القدرة على اللحاق بالإيقاع، يعيقون الآخرين وثم تُفلَت أيديهم ليقعوا على الأرض، أتخيل الآخرين يتابعون الرقص بنعول قاسية فوق أجساد الساقطين، لا تظهر سيقان الراقصين، فقط جذوعهم ورذاذ من الدم يتطاير أمام صدورهم، يلتصق بعضه بقمصانهم، بقمصان من سيسقطون بعد قليل لتختلط الدماء على نعال الأحذية، أتفادى أن يكون دمي بالذات هو الذي يتطاير تحت وطئة الإيقاع.

ولكنهم جميعاً يضعون استمرار اللعبة فوق كل اعتبار، ويغيرون الإيقاع كي لا يسقط أي منهم، ما أكملهم!

أعانقهن بروح لا تتجاهل الغياب، ولا تستفز الذكريات، أعانقهن بروح المشتاق إلى الله وإلى الكمال، الشوق البادئ من الفقد، أطلب منهن المزيد من التكور واستمالة العهود نحو الشمال، أغرب كابتساماتهن على مهل، وأترك بعض الضوء يتقافز في المكان، أذوي، وأدخل دوامتي من جديد، أغرق فيها، أغرق أكثر وأطلب المزيد، المزيد من الرياح، المزيد من غضب الدخيلة، أحطم السفن المخلخلة وأبتلعها، ألامسهن، ما أكملهم! يرمون خلف ظهورهم كل هراء الحداثة، يقولون لكل مفسري العالمين هذه إصبعنا موجهة بالضبط إلى وجوههم، تلامس رأس أنوفهم، تذكرهم أن كل ما يمكن لأوراقهم أن تفيده هو التصرف كطبقِ للكستناء، الكستناء المروية ناراً وضحكاً ،الكستناء التي تشبه العائلة، ما أجملهم!

تلامسني، تكلمني مشفقة على برودة أذرعي، أهمس لها – بصوتٍ غير مسموعٍ – لو تدرين يا بنت غسان كم من أضعاف ذاك الصقيع في قلبي. تلامسني، تواريخ لستُ أدريها، وحكاياتٌ لم أكن فيها، تلاحقني، تتابعني، وتهمس لي انظر إليهم، ما أجملهم! لا ملابس أنيقةً، لا ربطات عنق، ولا مشانق، لا أفراد، كالموج لا يهب إلا سواسية، وكالبحر بالضبط، يرمون بالذكورة المتعجرفة نحو القاع، كالموج يهبون سواسية، لا يجرفون ولا يحتون ولا يعرون، فقط يرسمون رقصة على الرمال ويرجعون، ما أجملهم.

 

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها