الصدى… وشؤون أصغر

Albrecht-Durer
كل ما يمكنك أن تقوله في النهاية أنها كانت مشكلة بسيطة، مسير الزمن يحت ويعري الأمور، يجعلها أكثر وضوحاً، ولكن أكثر ضآلة، أكثر قابلية للتلاشي في لحظة شرود، في لحظة تطهير تستهدف الأجزاء المكشوفة من وجهك. أنصت، أنصت جيداً، هناك ما يقال، وأنتَ مشغولٌ بالتفاتات الجسد، أنصت جيداً، اغرق! انسحب نحو إغواء الخطايا، تجاهل شرورها، هي مخلوقة على هذه الشاكلة المزعجة، قاوم أكثر، لا تنهزم أمام عنف عبارتها، لا تنتفض لرقصها عارية على الخطوط الحمراء، بل اغرق أكثر، اسبح أكثر بين الشعر المتساقط على صدرها الهزيل، واستخدم أضلاعها أمواجاً تركبها وتسافر بعيداً، إلى الطرف الآخر من المحيط، اهمس في أذنها، كن كاتباً في معاركك ولا تنسَ سيفك وراءها، استل لغتك في وجهها، مزق بمجازك خاصرتها، “هي لا تحبك أنتَ، يعجبها مجازك”*، اغمرها كنهرٍ يحفر عميقاً بين عظام شهوتها، “يعجبها اندفاع النهر في الإيقاع، كن نهراً”، بل كن شيئاً من اللذات يمتعها، واحرمها إذا ما فاتك التقنين متعة النظرة المسالمة الأخيرة، قبل أن تبتدئ بين أظافرها وعهر أصابعك المعركة.

كل شيءٍ سيزول، بعد نظرة أو نظرتين تفرغ فيهما كل حقدك، بعد اتصالٍ أو اتصالين تفرّغ فيهما كل الحشرجة، وحين تهدأ، أشعل النور، أو شمعتين، وعلّق على رحمها وصيتك الأخيرة، ازرع أسنانك داخلها تعتاش على الأجنة، جرحاً أو جرحين تمتص منهما فحماً لمرجل الرغبة في داخلك، رضاً أو اثنين تفرّغ بهما ارتعاشاتك حين تتمشى على ندوبك، استخدم كل مخيلتك، هي بوابتك إلى عالم رائع جديد، عمره ثوانٍ من الحلم والإيمان الراسخ بهلامية الوجود من حولك، احلم بجدية ويمكنك أن تثقب السرير، تسرب من الثقب كذكرى ابتلعتها بالوعة الحمام، فقط احلم، إنها مجرد هلوسة تسربت إلى العالم، لن تعيش أوقاتاً سعيدة، ولكنك بالتأكيد سترى أحلاماً جميلة.

لا تندفع نحو عنف الإيقاع، لا تسلمها مفاتيح خزينتك، لا تنزلق، هي ثوانٍ وتصبح لزجة تتماهى وخطوط بصمتكَ، فتكونها وتكونك “شفافة بيضاء”، بدأتْ تمل أسلوبك، بدأت تلاحق الإيقاع في الفواصل – والمعترضات – بلا ملل، وأنتَ حيرانٌ بين ذاك الذي لا يُلمس داخلك ولا يوصف، وبين الذعر من رداءة الكلمات، تغتصب الذاكرة وتنتهك حرمة بعث الصور الدافئة، “كمذكرٍ يملي على الأنثى مشاعرها”، هي ليست سوى ما أنتَ – في صباحات الحيرة – تطلبها، ليست سوى وسادة تعيدك رائحة جيدها إلى زمنٍ كنتَ فيه مفعماً بالحياة حتى أذنيك، ليس ماضٍ وليس مستقبلاً، ليس من اتجاه لموقعه، الوقت يمضي الآن كمرارة، دفعة واحدة، ودون تسميات.

لا تفقد المجاز، لا تفقد فكاهة التعبير، اقترب أكثر، شاهد عن قرب المجزرة، وقل لهم، سأسامح، وداخلك قل لنفسك لن أسامح ولن أنسى، ولن أنام قبل أن أرى الدماء تجاور الجوز والصنوبر وأشجار السفرجل، المسها، المسها، المسها، تداخل مع تفاصيل التقية، وامسح عن أطراف شهوتها زهر النرجس واتركها للحنين، أخبرها، أنكَ تعرف كل شيء، أخبرها عن نفسك، أن خلق هذا الكون ليس سوى جزءاً من عملك، مرر لسانك على أذنها، وأخبرها حقيقة ما حصل، كنتَ هناك، لماذا لا تقول لها أنكَ رأيتَ الشمس تبصق الأرض، وأن الأرض مصابة بالدوار بسبب ارتجاف يدها مذ ذاك النهار؟

ألتهم حطامكِ، أجاور الشمس وأرتمي شعاعاً ونوراً على كتفيكِ، أتابع باهتمام أنهار الرهاب في شفتيكِ، أستمع، علّيَ أعرف أثراً لصلاةٍ تطهرني من خطيئة انتهاكك، أقاوم الرغبة الشديدة بالمكوث طويلاً داخل ظلمة أحشائكِ، مراقصاً عمودك الفقري، يداعبني على إيقاع النبض في القلب وفي وجدان الحلمتين، ترقصان كل على حدة، وتبتسمان بغنج إذا أخطأتا بالخطوات، وأنا أتأمل باهتمام مهرجان العطور المتندي على سرتكِ.

داعب الضمائر، تابع الشعائر وقدمها قربان انتصابك الأول، قدمها قرباناً وابتسم، وقل: انتصابي الأجمل، وأحلها دخاناً يغتصب سماء التورية، داعب الضمائر، ولا تسمح بتحريك تائها الساكنة قيد أنملة، فإنك تستهوي النساء اللواتي يوقظن داخلك شخصية مقعرة من رواية ألمانية، لا تستسيغ اليونانية، تذكرك برائحة البخور وغسول الشعر، تدفعك إلى رأس “الصديقة” على ساقيكَ الباردتين، تداعب داخلك الذكرى فتداعب ضمائرها، وحين تركن إلى زاويتك من الكوكب تجد ضمائرك مقلوبة رأساً على عقب، ربما كان عليك تتفقد ذكرك قبل ذهابها، امسح عنك التعرق الذي يغزو جبهتك، صغيرك في مكانه، ينام نوماً هانئاً بعد نهارٍ متعبٍ من المرح العميق.

*الاقتباسات من: كزهر اللوز أو أبعد – محمود درويش

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها