ملابس الميلاد

كانت تجري وتسبق والدتها التي كانت ما تزال تغلق باب السيارة البيضاء، وقفت الطفلة البريئة أمام الباب تقفز كقطةٍ تنتظر قدوم صاحبها، كانت فرحة كأي طفلةٍ بيروتيّة تنتظر عيد الميلاد بشغفٍ بملابسها الجديدة التي اشترتها، وصلت أمها إلى الباب وفتحته ودخلتا إلى المنزل، استمرّت بالسير والقفز بابتهاج حتى وصلت إلى غرفة الجلوس، هنا توقفت عن الابتهاج بسبب وجود والدها وكأس الوسكي والتلفاز أمامه يشاهد عليه برنامجاً عن الجنوب وما حصل فيه من دمار، أخذت تسير بالقرب من الأريكة ورأسها يكاد يعانق الأرض، كان طوال العمر هكذا، كان يخاف على فتياته من الشبان ومن الجميع، كان يخاف عليهن ليس حبّاً بهن، بل لأنهن كانوا يمرّون بمرحلةٍ لم يرها من قبل، كيف لا وقد كانت أمه هي الأنثى الوحيدة التي رآها في طفولته، وعندما كبر كانت الفتاة التي ارتبط بها هي فتاة سوريّة لم يرها إلا قبل مدّة قصيرة من زواجهما، هي الأخرى لم يكن منزلها أقل استبداديّة من منزل زوجها.

لمح الفتاة تتسلل إلى غرفتها، فناداها دون أن تفارق عيناه التلفاز ودون أن تفارق يداه الكأس. ” تعالي هنا”، أتتْ إليه بعيني الملك التي تملك ونظرت إليه وقالت له بصوتٍ خجولٍ، كما لو أنها فعلتْ ذنباً ما، لم تكن قد فعلت شيئاً ولكن هذا الأب من الصعب حساب ما قد يكون بالنسبة له ذنباً:” مرحباً، لقد عدنا للتو”. فارقتْ عيناه التلفاز أخيراً ونظر إلى الكيس الذي في يدها، ثم نظر إليها وقال لها:” هذه ملابس الميلاد، أليس كذلك؟” هزّت برأسها وهي تعلم ما ستكون الجملة التالية بعد أن يخرج الملابس، هذه كانت عادته كل عيدٍ. أخرج الملابس من الكيس ورفع الكنزة أولاً ونظر إليها محاولاً أن يقدّر كيف ستبدو على جسد ابنته، أعطاها الكنزة ثم رفع البنطال، كان لونه أبيضاً وفي نهايته قطع قماشٍ مزركشة باللون الأحمر، وكما كان يفعل كل سنة ناولها البنطال وقال لها تلك الجملة الكاذبة التي لم يتعلم غيرها بعد ليخدع بها الملائكة الأربعة اللواتي يملأن منزله:” ألن تسمحي للبابا أن يرى كيف ستبدو الملابس الجديدة على ملكته الصغيرة” كان يقول لها هذه الجملة لها منذ صغرها، وظل يقولها لأخوتها التي هي أكبرهن، ذهبت إلى غرفتها لتغيّر ملابسها. لم تكن تفهم لماذا الأب المستبد الذي بالكاد يبتسم بوجه فتياته يصبح فجأة حنوناً كلّ سنة عند شراء الملابس، ولماذا ليس عند العيد مثلاً الذي هو أهم بألف مرّة من ملابسه.

كانت ترتدي الملابس في غرفتها وهي تنغم لحن ترتيلة علموها إياها في المدرسة، كانت بالفرنسية اللغة التي لطالما صعبت عليها، فأمها التي كانت تعلمها إياها بطريقة خاطئة فثقافتها الأجنبية كانت إنكليزيّة كأغلب الفتيات في سورية، انتهت الفتاة من ارتداء الملابس الجديدة، وخرجت إلى والدها ومظهرها كان مضحكاً، كانت أوراق الماركات لم تنزع بعد، فكانت تتدلى عند عنقها وخاصرتها النحيلة، كان قد أعاد نظره أسير التلفاز، لمحها بطرف عينه، أشار لها دون أن تأتي إليه دون أن ينظر إليها، حتى هتلر كان ينظر إلى جنوده حين كان يشير إليهم، أتتْ إليه ووقفت أمامه، أخذ يتأمّل ملابسها جزءاً جزءاً، لم يغفل أي تفصيلٍ صغير، طلب منها كما كان يفعل عادةً أن تلمس حذاءها بيديها، لم تكن تفهم لماذا كان يفعل ذلك كل عام، ولكنها كانت تشعر ببعض الفرح، لم تكن معتادة أن تشعر بأحدٍ يهتم بها أو يتأملها بهذه الدقة، كان أمراً مبهجاً لفتاةٍ قضت الابتدائية وحيدة دون أصدقاء، ومرحلتها الاعدادية التي قضت منها حتى الآن شهرين لا تبدو كما لو أنها ستكون أفضل. ” اِذهبي الآن…! أو انتظري قليلاً… تعالي هنا”، أتتْ إليه من جديد أمسك طرف الكنزة وشده إلى الأسفل قليلاً. “اِذهبي الآن”…

دخلت الفتاة التي لم تعد طفلة، بدأت تغيّر ملابسها، كانت تفكر وتبحث عن سببٍ منطقي لهذا التصرف الغريب من والدها كل عام، هذا التصرف الذي بدأ يمارسه على أختها التي تليها وتصغرها بسنتين، لم تفهم لماذا على والدٍ مستبدٍ أن يتصرف هكذا بلطفٍ، أو بالأحرى بغرابة مرتين كل سنة، قبل عيد الميلاد وقبل عيد الفصح، وعندما صارت داخل غرفتها سمعتْ أبيها يتكلم مع والدتها، وكان حديثاً مؤلماً لم تعتد أن تسمع مثله:

–         أليست قصيرة، هناك بقدر مسافة يدي ظاهرٌ

–         ما زالت صغيرة، لن أجعلها ترتدي ثياباً محتشمة لا داعي لها في هذا العمر

–         لقد أصبحت في المرحلة الإعدادية، لم تعُد صغيرة، هل أنا مخطئ..؟

–         ما بالك ؟ نحن في بيروت، لا تدع ابنتك تبدو غريبة أمام صديقاتها

–         انتهى النقاش…!

هذه الكلمة القاسية لطالما كانت تعني غضب الوالد، وغالباً النقاشات العائليّة كانت تنتهي هكذا. كان ما سمعته الفتاة قاسياً، أعادت الملايين من التساؤلاتِ التي كانت تملأ رأسها عندما كانت طفلة، أعادت لها فجأة صور الملابس التي اشترتها مذ كانت طفلة في الثامنة، كلها كانت تشترك بنقاطٍ واحدة، دائماً كانت بناطيل… لا فساتين أو تنانير، كلها كانت لا تسمح بظهور إلا أجزاءٍ محدودة من جسدها الطفل، الآن هذا الجسد لم يعد طفلاً، والفتاة التي تلقت هذه الضربة القاسية في بداية مراهقتها لم تعد طفلة ابتداءً من هذه اللحظة، لقد علمتْ أن والدها لم يكن يتنازل عن استبداده عند شرائها لملابس العيد، بل كان بكل بساطةٍ يصير أكثر استبداداً، كل هذه الأفكار دارت في رأسها، وقد خرجت دمعة من عينها لتستفسر عمّا يحصل، وفي ما بعد تلك الدمعة نادتْ للآخرين…

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها