إلى مصلوبة

modern_crucifixion
العجز عن الكتابة أجمل بكثيرٍ من احترافها، العجز عن إطلاق التسمية، والإطالة في شرح الألم، العجز عن رؤية نفسنا عراة أمام عيوننا، العجز عن الكتابة أجمل، أكثر وردية، أكثر غموضاً، لا نعرف التمييز بين الوجد والسلوى، لا نعرف التمييز بين الحياة والوهم، في الكتابة كل شيءٍ مكشوفٌ بعريّ يعمي الأبصار، نحن – الكاتبون – أكثر الناس انزعاجاً من الضوء، وأكثرهم نظراً إليه، أكثرهم تأملاً حتى نفقد القدرة على النطق.

لا يمكنكِ الحديث عن الأمور كما هي، ذلك يفقد النص بريقه، يصبح مأساة أخرى من بين مليارات المآسي، يصبح مجرد متمردةٍ أخرى لم يعرف العامة وجهها إلا معلقة على خازوق السلطان، لا يمكنكِ أن تذكري الأسماء كما هي، أو التلميح بسذاجة للشخصيات، عليكِ أن تكوني أكثر مواربة، فلا شيء أسوأ من تسببِ كاتبٍ بثورة في المدن الباردة سوى تسببه بفضيحة، ستلاحقه أشباح شخصياته، تقسم له أنها ليست سوى تلك المكتوبة على الورق، وأنْ لا صلة تربطها بالحقيقية، تلك صاحبة الفضيحة.

اكتشفتُ اليوم بعد زيارة للمعجم المدرسي الأحمر الساكن في زاوية الغرفة أن اسمكِ ليس اسم مفعولٍ فقط، بل يصلح ليكون مصدراً أيضاً، يربكني ذلك، كان بإمكاني أن أشرح مطولاً الفرق بين الرحلة ومنتهاها، وأيهما مبتغاي في هذا العالم، لكن لا يمكنني، لا أريد أن أكون كاتباً سقط مغموراً أو ميتاً في بداية حياته بسببِ فضيحة. فقط لو كنا أكثر قليلاً، هذه المدينة لم يبقَ فيها أحدٌ، الجميع يعرف الجميع، من المستحيل أن تجد صديقاً يكون غريباً عن كل ما حولك، يكون جاهلاً بخفايا حياتكَ، وشكوككِ، وحتى تاريخ الإشاعات المنتشرة بخصوصكِ، لا مساحة كافية لإخفاء الأسرار في هذه المدينة، جميعنا عراة، جميعنا عاجزون عن الكذب بخصوص أعضائنا التناسلية.

الأنبياء لا يحلمون، الأنبياء فقط يرون ما شاء الله – أو أياً كان مديرهم – أن يروا، عليهم أن يكونوا حذرين، فلكل كلمة انعكاسات غالباً تكون وخيمة، الأنبياء لا يتحدثون عن أحلامهم، على الجميع أن يجهل ما تخفيه رؤوسهم الثقيلة، الأنبياء لا يخلعون ثيابهم، لا يقفون عراة أمامنا.

أقرأ الآن رواية فيها قصة تشبه قصتنا، بعض التفاصيل ليس كلها، ولكنها تحمل بعضاً من رائحة الشوق الذي لا يُسكَّن، وبعضاً من رائحة عطورك الباهظة الثمن، أفكر في نفسي، أليست كل قصص الحب التي تستحق كتابة الروايات عنها تشبه قصتنا؟ أليست تختصر كل آلام الحب المحرم في العالم والتاريخ أجمعين؟ أليست شهقة المشتاق بعد نهارٍ طويلٍ من الصمت واحدة؟ أليست لوعة المحروم من شفاه من يهوى وأطراف أصابعه واحدة؟ أليست نشواتنا المؤجلة وآهاتنا المزيفة وبكاؤنا من مساماتِ ظهورنا واحدة؟ إذاً لماذا يكتبون كل هذه الروايات؟ ألا تكفي رواية واحدة؟ أم أننا بتنا أكثر كذباً واختزاناً للأسرار فلا يكفينا كتابٌ كامل لنقول ما لدينا؟ أهو ضروريٌ كل هذا التملص والالتواء في التعبير حتى نقول أننا مصلوبون على أبواب مدينتهم التي يملؤها العفن؟ أعلينا أن نكتب مجلدات كاملة لنخبرهم أن الخطيئة تتطهر بدمائنا المسالة على صخور بساتين المدينة؟ أنخبرهم أن كل هذا الرجم لا يكفي؟ أم نتركهم يحتفلون بانتصارهم على طاحونة الهواء الأخيرة؟

سأختبئ في شعركِ، سأخبركَ دون أن يعلم ضيوفك كل شيء، لن أخفي عنكِ سوى بعض علامات الترقيم غير الضرورية، سأحكي لكِ عن لياليَّ الغريبة، عن سفري وترحالي في طرقات مدينتين لا أكثر، سأخبركِ أن الكون أكبر بكثير مما نحتاج، وأن مدينة واحدة يُرفع فيها الأذان تكفي، سأخبركِ أن سريرين أكثر من قدرتي على الاحتمال، سأخبركِ أننا واحدٌ لا اثنين، وأن سريراً واحداً يكفي.

سأكتب رواية يموت فيها الجميع، يختفون بشكلٍ مفاجئ، تخطفهم مركبة فضائية أو سيارة بيضاء، سأكتب رواية أقول فيها للعالم أجمع أنني أحبكِ، وسيصفق الجميع لشجاعتي، ويربتون على كتفي مشجعين إياي على المزيد من الصراحة، على المزيد من الوقاحة، لا شيءَ يجذب المعجبين كالوقاحة، سيصفق لي هو أيضاً، سيمسك معصمكِ، ويقدمكِ لي مكافأة أو تعويضاً بسيطاً عن شجاعتي، لو أراد بالفعل تعويضي سيكون عليه أن يعود بالزمن سنيناً، ويطلب من كل شيءٍ أن يسير على نحو مغاير، سيكون عليه أن يغير الحاضر، أن نكون في نهاية القصة المبتذلة هذه على سريرٍ واحدٍ لا اثنين، نتبادل الهواء نفسه، نغذي بعضنا البعض بقبلات الحياة الضرورية كي لا نختنق بأحلامنا، لو أراد تعويضي سيكون على الكثيرين أن يموتوا، لا مهرب لي سوى كتابة رواية يموت فيها الجميع، فأشعر وأنا أدخن سيجارة ما بعد إنهاء الكتاب بأنني انتصرتُ لخمس دقائق، سأشعر بأنني قادرٌ على حط رحالي وإغماض عيني، والنوم مطمئناً لعدم وجود شؤونٍ غير معتنىً بها، وفي اليوم التالي سأكتبُ رواية أخرى يموت فيها الجميع بانتظار الدقائق الخمس التالية من النصر عند الانتهاء من كتابتها.

فقط لو كنتُ عاجزاً عن الكتابة، لو ضاع كل ذلك الذي يلتهم أحشائي بين الحيرة والسؤال، لو كنتُ عاجزاً عن الكتابة، لكنتُ اكتفيتُ بالارتجاف أمام عنقكِ كي يصلك كل شوقي المؤجل، لكنتُ اكتفيتُ بعناق جوفكِ والاستماع إلى أنّاتِ رحمكِ اشتياقاً.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها