فولكه

كانت ترى نفسها غريبة، كان الجميع يراها غريبة، فتاة عربية تقطن إحدى أكثر الأحياء الألمانية نازية بصمتٍ، كان الجميع يراها غريبة بلباسها المحتشم، كان الجميع يراها غريبة بلكنتها البطيئة التي غالباً ما تعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة بالألمانية، أو تلفظ الأحرف الألمانية بطريقةٍ ترسم حولها آلاف الأيادي تشير إليها وتقول:” هذه عربية، هذه أجنبية”، من يلمحها من الصعب أن يعلم أنها ليست ألمانية، فهي شقراء الشعر بيضاء البشرةِ، زرقاء العينين يكاد من يراها – سواء أكان ألمانياً أو غير ألماني – يقسم أنها الآرية الأخيرة في أوروبا.

كان الجميع في مدرستها يستغرب منها، كيف لفتاةٍ في السادسةِ عشرة من عمرها ألا تملك رفيقاً؟ أو بالأحرى كيف لفتاةٍ بمثل جمالها أن تكون دون رفيق؟ لطالما كانت تجلس وحيدة ، لطالما كانت وحيدة تتناول طعامها، لطالما كانت وحيدة تقضي أوقاتها، والدها لم يرِد أن يستقر في منطقةٍ يتجمع فيها العرب، أراد أن يبتعد عن الأفكار الحاقدة على الغرب المنتشرة هناك، لم يفكر أحد قبلاً أن يبادرها بالاقتراب منها، عدا شابّ نحيل جميل العينين أراد أن يشعر الفتاة الوحيدة بأنها مرحّبٌ بها في مدينةٍ قل ما يُرحّب بغير الألمان فيها، كان يقضي أوقاتاً طويلة معها يشجعها ويساعدها كثيراً للاندماج بالجو الذي حولها ولكنها كانت دائماً تفشل بذلك.

في أحد الأيام الشتوية الباردة – وما أكثرها هناك – كانت تجلس على أحد سلالم بناء المدرسة وحيدة تشرب فنجان كاكاو ساخن وتقلب صفحات كتاب الشعر الذي لطالما وجدت صعوبة في قراءته، وكالعادة كان صديقها يساعدها لتتغلب على ألمانيتها المنهكة، وفيما كانت مندمجة بقراءته سمعت صوتاً من الخلف يقول لها بلهجةٍ عربيةٍ منهكةٍ أيضاً:”مرحبا” كان ذلك صوت صديقها الذي علمته كيف يلقي السلام بالعربية وكان يحب أن يقولها لها بالعربية ليشعرها أنها قادرة على أن تؤثر على الآخرين أيضاً، ردّتْ عليه بالعربية أيضاً:” أهلا ً…!” وابتسامة مرتعشة على شفتيها، ثم نظرت إلى الكتاب ووضعت إصبعها على أحد الكلمات وسألته بالألمانية المنهكة: “ما معنى كلمة فولكه Wolke، هل ألفظها بشكلٍ صحيح؟” نظر إليها وابتسم من الطريقة الغريبة التي لفظت الكلمة بها وقال لها:” نوعاً ما..! معناها بالإنكليزية cloud” كانت دائماًً الإنكليزية الجسر الذي يلغي الفجوات بين اللغتين، فقالت بصوتٍ منخفض: “<فولكه>، غيمة” نظر إليها بعينيه الساحرتين، قال مستغرباً:” ماذا قلتِ؟ أهي تعويذة؟” ضحكت عليه مجيبة عن تساؤله الذي كان هدفه المزاح على الأغلب:” كنتُ ألفظها بالعربية كي أحفظها” فنظر إلى يدها مغيراً الموضوع وقال لها سائلاً وطالبا ًفي الوقت نفسه:” أهو ساخن..!؟” نظرت إلى يدها ومن ثم إلى عينيه وقالت له مقدمة شرابها الساخن:”طبعاً …. تفضل” أخذ الكأس الورقي منها وشرب المتبقي فيه شربة واحدة، ورمى الكأس إلى سلة المهملات وكالعادة لم يصب السلة واضطر أن يذهب إلى جانب السلة ويضعها بيده ثانية، ثم عاد إليها ورآها ترتجف…

قال لها بصوتٍ حنون ووجهه يكاد يلامس وجهها:” أتشعرين بالبرد؟” أجابت دون أن تحسب حساب ما سيؤدي له هذا الجواب:”نعم.. ما زلت أجد مشكلة في اختيار الملابس المناسبة للطقس هنا، في مدينتي في سورية قلما يكون الجو بارداً، بالمناسبة مدينتي هناك تدعى حمص”  نظر إليها غير مستغربٍ من حديثها عن بلدها الذي لطالما أحبتْ أن تتحدث عنه، خلع معطفه ووضعه على كتفيها وهو يقول لها:” يوماً ما سأزور سورية وسأزور مدينتك التي بالمناسبة أخيراً تذكرتِ أن تقولي اسمها، هل سبق ولاحظتِ أنكِ تتكلمين عنها كثيراً دون أن تخبريني اسمها…؟” أنهى عبارته وكان الوضع أغرب من أن يتجاهل… كان يلفها بيديه اللتين لم تبتعدا عن كتفيها بعد أن لفها بمعطفه، كان وجهه لا يبعد عن وجهها أكثر من عشرة سنتيمترات، وكان قلبهما ملتصقان، نظراً في عمق عيونهما لثوان ٍ…

دون أن يسيطرا على عضلات رقابهما وجدا رأسيهما يقتربان من بعضهما، كانا يقتربان من بعضها وأحدٌ منهما لا يفهم ما الذي يحصل ولماذا يحصل ولماذا خرج الآن بعد سنتين من معرفتها لبعضهما، تلامست الشفاه كالحلم ولم يرِد أن يستيقظا منه، ولكنها أرادتْ ذلك، في تلك اللحظة فتحت عينيها ونظرت إليه مستغربة ًمنه… وربما من نفسها.

تركت كتبها والشاب الذي أوقعته في حبها منذ قبلة، وجرَت مسرعة إلى حمامات الفتيات، وقفت أمام المرآة تنظر إلى وجهها، ثم أخذت تمرّر إصبعها على شفتيها كما لو أنها تبحث إن ترك شيئاً منه على شفتيها، ثم أخرجت صليبها المدسوس تحت سترتها، ونظرت إلى أعلى وبدأت تردد صلاتها:” يا رب ارحم” وبقيت تكررها والدموع تنهمر من عينيها…

 ثم مسحت الدمع من عينيها وخرجت لتحضر كتبها، وتذهب إلى صفها لتكمل هذا النهار العصيب.

حين خرجتْ تفاجأتْ به يقف أمام باب الحمامات منتظراً إياها وهو يحمل لها كتبها، نظر لها وهو لا يفهم ما حصل حقاً وسأل بصوتٍ منخفض حنون: “هل فعلتُ أمراً خاطئاً؟ إذا كنت قد فعلت فأنا حقاً آسف..!”، نظرت إليه بعينين رطبتين وقالت له دون أن تخفي خوفها ممّا حدث:” أنتَ؟ لا لم تفعل… لا أظن”

 أرادها أن تقتل حيرته من أصلها، سألها بصوتٍ مرتفع ٍهذه المرّة:” لقد كنتِ تبكين…؟!!”

 لم تعلم بماذا تجيبه، ولكنها بعد نظرٍ مطوّلٍ أجابت:

“في بلادي جرتْ العادة عندما تحب الفتاة أن تبكي حتى تصير عينيها مثل..” وأغمضت إحدى عينيها مستذكرة الكلمة ثم أكملت: “مثل (فولكه)، ولأني أحبّكَ بكيتُ، لم أرد أن أخرق عادات بلادي”.

و رمت نفسها على صدره، فافلتَ الكتب وعانقها غير فاهمٍ ما كانت تتحدث عنه.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها