الصوت

لقد اعتادت عيناي على الظلام، وبتُ قادراً الآن على رؤية الأمور بوضوحٍ أكبر مما كنتُ أراها في البداية، كانوا يريدون لي أن أضجر بسبب الظلام، وأن تمر الساعات دون أن أشعر بها، دون أن أشعر بها كساعات، أعترف أنني الآن بتُ في حالة لا أفهم فيها الزمن كما اعتدتُ أن أفهمه عادة، كانت الطريقة البسيطة التي أقيس الزمن بها حين كنتُ في الخارج هي الساعات، النهار مقسمٌ لأربعٍ وعشرين ساعة، وكل ساعة إلى ستين دقيقة وما إلى ذلك، ولكن الآن بات الوقت يحسب بطريقة أخرى، بطريقة وضعيات الجسم، فكل ما تعبتُ من وضعية أعتبر أن وحدة من الزمن قد مرت، لا يهم كم هي مدتها، ولا يهم إن كانت مدد الوحدات الزمنية التي تمر متساوية، المهم أنها مرت وبدأت واحدة أخرى، وما يميز هذه الطريقة في حساب الزمن التي اعتدتُ عليها هو أن الاستراحة والتوقف بين الواحدة والأخرى ممكناً، على عكس النظام السخيف الذي كنتُ أستخدمه حين كنت في الخارج.

فترات الطعام لم تكن واضحة، أو لم يكن واضحاً لي سبب دقة مواعيد تقديمها، كان الطعام يحضر عندما أحتاجه، أو عندما أشعر بالرغبة به، الظلام شديد، لم أكن أستطيع أن أرى من أين يدخلون الطعام، بعد أن اعتادت عيني الظلام بت قادراً على رؤية الطعام ولكن لم أتمكن من رؤية الذين يدخلون الطعام، أو اليد أو الفتحة التي يدخل منها، من المفترض أن أرى ضوءاً ولكن يبدو أن الخارج كما الداخل، مطلق الظلام وحتى أولئك لا يرون شيئاً بالكاد مثلي.

الطعام الذي يقدمونه لي غريب، لم أضطر يوماً للخروج من الظلام كيف أتبرز أو أتبول، لا أذكر حتى متى كانت المرة الأخيرة التي فعلتُ فيها ذلك، حتى أنني في الفترة الأخيرة لم أعد أذكر متى دخلتُ إلى هنا، لا أستطيع حتى أن أقدّر كم مر من الوقت عليّ في هذا المكان، ولا حتى بشكلٍ تقريبي، لا أعرف كم بلغت من العمر، أذكر أنني كنتُ شاباً، وربما ما زلتُ شاباً كما كنتُ حين دخلت، ولكن لستُ متأكداً من أي شيء.

الأرضية غريبة، كانت صلبة في البداية، في الوقت الطويل نسبياً الذي مر مؤخراً أصبحت أقل صلابة، حتى أنني بتُ في بعض الأحيان أوضبها كما كنتُ أوضب وسادتي في المنزل، باتت أكثر مرونة وليس فقط أقل طراوة، في بعض الأحيان تكون مزعجة، أضطر أن أستخدم كامل جسمي كي أضغطها، كي أرصها أكثر وأجعلها على مستوىً واحد، التوازن صعب حين تفقد الأرض التي تحتك استواءها.

تواصلي مع الخارج مقتصرٌ على صوتٍ يكلمني كل يوم، يظهر قليلاً ويختفي، لم أعد أفهم الكلمات التي يقولها، ولن ألومه في ذلك، أعتقد أنني نسيت اللغة التي كنتُ أتكلمها قبل أن آتي إلى هنا، مر وقتٌ طويلٌ منذ اضطررتُ لاستخدام اللغة، الجدران التي كانت حولي والتي لا أستطيع إيجادها الآن لا تستطيع التكلم، ظننتُ في البداية أنها تستطيع، كان ذلك مجرد صوت بعض الآخرين الموجودين خلفها، أولئك أيضاً اختفوا، بتُ أتساءل أحياناً إن كنتُ ميتاً، أو ربما في غيبوبة، ولكن لم يبدُ الأمر منطقياً.

في أحد الأيام ظهر الصوت من جديد، كان يتكلم معي ولا أفهم ما يقول، حاولت أن أتذكر أي كلمة من اللغة التي كنتُ أتكلمها، تذكرتُ كلمة الموت، قلتها له “ميت؟!”، استمر في الحديث، تغيرت نبرته وكأنه يسألني عن شيءٍ ما، لم أستطع أن أفهم كلامه، واختفى الصوت من جديد.

أشعر بالحزن حين يختفي الصوت، لستُ واثقاً إن كان صوتاً بشرياً أو مجرد صوتِ حيوان ما، ولكنه كان يخفف قليلاً من شعوري بالوحدة، كان يفصل بين الظهور والآخر للصوت حوالي الست وحداتٍ زمنية، أحياناً أقل، يتوقف الأمر على فترات الاستراحة التي آخذها بينها.

قررتُ أن عليّ أن أتكلم مع الصوت، أخذت أقضي الأوقات في محاولة لتذكر بعض المفردات الأخرى من اللغة التي كنتُ أتكلمها، يبدو أن الصوت كان يتكلم نفس اللغة ربما، اكتشفتُ حينها أنني لم أقل له كلمة “ميت” بشكلٍ صحيح، لذلك لم يجبني، وتابع الكلام.

تمكنتُ أخيراً من تذكر بعض الكلمات، وقررتُ أن أقوم بالتكلم مع الصوت حين يأتي في المرة القادمة، طال غيابه هذه المرة، استغرقه القدوم أكثر من عشرين وحدة زمنية، حين أتى بدأ بالكلام، لم أستطع فهم كلماته، لم تكن من ضمن تلك التي تذكرتها، سألته؛ هل أنا ميت؟ فأجابني: لا لستَ ميتاً، ليس بعد.. وذهب.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها